ما تزال الدراسات والبحوث تتغاضى إلى حد ما، عن التأريخ للأفكار في الربوع الشنقيطية رغم ما تنعم به هذه الساحة من ثراء لافت في ميدان الفكر و البناء النظري المنسجم، و يمتد ذلك من العصور الغابرة من تاريخ بلادنا إلى عهد قريب، وانطلاقا مما يلاحظه الدارسون من غياب لهذه الاهتمامات، نجد من الأهمية بمكان ضرورة فك رموز أحد النماذج من الآثار الفكرية الإسلامية الشنقيطية واستنباط مضامينه الثرية.
و يتلخص ذلك في إبراز بعد هام من أبعاد التراث الفكري العقدي الإسلامي الشنقيطي عن طريق إضاءة جوانب مركزية من المخزون النظري للكتابة الأخلاقية ـ السياسية في العهد المرابطي، وخاصة لدى الإمام محمد ابن الحسن المرادي الحضرمي وهو الذي تولى الإمامة والقضاء في حقبة خاصة من تاريخ دولة المرابطين بعاصمتها في الصحراء الموريتانية، أزوگي في عهد أبى بكر ابن عمر اللمتونى المتوفى سنة 480 هــــ ) 1087 م( , وهو الأمير الذي ارتبط به الحضرمي، حتى وفاته سنة 489 هج ) 1096 م ( بأزوگي ذاتها – كما يقول ابن بسام الشنترينى في كتابه الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة
و لعل المعالم البارزة للبعد العقدي في الكتابة السياسية للمرابطين تبرز لنا من خلال كتاب "السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة" للحضرمي باعتبار هذا الأثر الفكري، أسس لنظرية متكاملة في السياسة ذات أبعاد و ملامح عقدية واضحة
و تبرز أهمية إعادة النظر فيما أسس له الحضرمي من نظريات لافتة ، من كون ذلك يمثل خطوة على طريق النفاذ إلى أطروحاته، انطلاقا من القراءة وإعادتها، قصد إبراز المساعي التنظيرية، التي يبدو أنها أسست للتقعيد السياسي الأخلاقي, ضمن رؤية شبه منسجمة تملك قوالبها الخاصة، و يتجلى ذلك بوضوح في أن مختلف القضايا التي يطرحها هذا الكتاب، تنتظم في سلك إشكالية أخلاقية، سياسية تشكل المحور المركزي لتنظير هذا المفكر الذي يقوم ببناء شبه منسق لنظرية في الدولة، تستقي روافدها من الموروث الديني العقدي و الواقع التجريبي العملي
و سبيلا إلى تلمس البعد العقدي للكتابة السياسية المرابطية يجدر بنا أن نذكر ـ ولو باقتضاب ـ بمنزلة الحضرمي الفقهية والكلامية، كجانب لتأصيل البعد العقدي في هذا التفكير لديه، فقد أكدت المصادر على أن الحضرمي هو أول من أدخل علوم الاعتقادات إلى المغرب الأقصى – كما يؤكد على ذلك يوسف بن يحي التادلي في كتابه "التشوف إلى رجال التصوف "، فهل تعايش الكلام الأشعري مع الفكر السياسي في الفضاء المرابطي في الصحراء ؟ وكيف حضر الاتجاهان في كتاب الإشارة ؟ كنموذج للكتابة السياسية المرابطية ؟
مما لا شك فيه أن الثقافة العقدية للحضرمي نبعت من صميم روح المشروع المرابطي، كما نظر له شيخ المالكية ومتكلم الأشعرية في المغرب الأقصى والقيروان، أبو عمران الفاسي المتوفى430: هـ ) 1037 م( ، الذي تخرج على يده معظم فقهاء المرابطين، وليس الفاسي وأبي بكر الحضرمي في واقع الأمر إلا ممثلين لشيخ الأشعرية أبي بكر الباقلاني ( ت 403 هـ 1013 م(، ، فقد تسرب الكلام الأشعري، إذن إلى فقهاء المرابطين على يد الرجلين، وإن كان حضور الأشعرية في الصحراء ظل ضامرا إلى أن تقلد الحضرمي الإمامة والقضاء، وعمل على إدخال العقيدة الأشعرية إلى الصحراء، وإشاعة التفكير العقلي بين مواطني الغرب الإسلامي
و قد تجلى البعد العقدي في فكر المرابطين، في سياقات ومباحث غير عقدية بطبيعة الحال، إلا أنه حضر بصورة ضمنية في مواضيع كتاب الإشارة، وهو بعد أشعري يدعم البعد الشرعي ويكمله ولعل هذا الحضور الضمني للكلام الأشعري عند الحضرمي يدعم البعد الشرعي ويكمله، ولعله أيضا يترجم إرادة تغييب ظاهري لهذا البعد، نظرا للطابع السجالي الكلامي المنتمي في مجمل حيثياته إلى الدائرة الخاصة التي يدعو الحضرمي الأمير إلى الانفتاح عليها، ومعاملتها بالانبساط، يقول الحضرمي : " الحزم أن تلبس الانقباض للعامة، والانبساط للخاصة "
ينظر الحضرمي إلى الخاصة كدائرة وعي أرقى من الدوائر الأخرى في السلم الدرجي للمجتمع السياسي، وبالتالي فهي معنية بالمسائل الخصوصية، مثل مسائل العقيدة، وأمور المعرفة الحقيقية، ولعل هذا ما يمثل الوجه الأول من حضور النظرة العقدية في الفكر المرابطي و خاصة البعد الأشعري
أما الوجه الثاني من حضور البعد العقدي، فهو أكثر وضوحا، لتعلقه بمسالة أنماط الأفعال الذي نستشفها من الأساس النفسي لنظرية الدولة، المتمثل في مسالة التعود وآلياته المسخرة للأعمال، يقول الحضرمي : "التحرز من سوء العادة ... يكون بالتدرب على العادة الجميلة قبل اتخاذ القبيحة ."
يحيلنا هذا الطرح إلى إشكال كلامي يكمن في معنى التدرب الذي يوحي بالإقرار لدى الحضرمي بنوع من القدرة لإنسانية المكتسبة على القيام ببعض الأفعال الحسنة أو القبيحة، الأمر الذي يقيم مساحة حرة للإنسان يستطيع داخلها أن يؤثر في نفسه وفي الأشياء، بصورة مشروطة بالاكتساب المقدر على الإنسان، والمخلوق بصورة سارية.
ومن هنا نخلص إلى أن البعد السني العقدي عموما في فكر المرابطين، جاء متكامل الحلقات، لكن حضوره ـ سواء كان شرعيا أو عقديا ـ كان يؤطر النظرة داخل كتاب الإشارة تأطيرا معرفيا يدل بوضوح على فيضان نظرية الدولة عن المنظومة الفقهية المالكية والأشعرية، كما تعايشت في فكر كبار المنظرين لهذه المنظومة من جهة، وللدولة المرابطية من جهة أخرى، أمثال : أبي بكر الباقلاني، وأبي عمران الفاسي وتابعيهم في هذا النهج.
وتعتبر الأبعاد الشرعية والعقدية لنظرية الدولة في كتاب الإشارة، هي الثوابت الرئيسية للمساعي التنظيرية للحضرمي التي تنطلق من الموروث الديني و ذلك على حساب الممارسة العملية السياسية.