ليست أزمة العقل المسلم اليوم في كثرة الشواغل والعقبات التي تعترضه داخليا، ولكن أزمته الأساسية في تغييبه التام عن لسان القول العام،ووصل هذا اللسان بظواهر صوتية، لا تمت للعقل ولا للفقه بصلة. وتظهر هذه الأزمة في أشكال عدة لعل آخرها فتوى العقيد القذافي بوجوب الجهاد ضد دولة سويسرا.
تدفع تلك الفتوى الغريبة إلى التساؤل بجدية ومنطقية،عما إذا كانت الأمة قد وصلت بقوة إلى درجة الافتقار النهائي إلى من يستطيعون بحكمة وبصيرة التوقيع عن رب العالمين وإصدار الفتاوي في الشريعة،حتى يتصدر الإمام القذافي للإفتاء في شأن الجهاد وتحديد الجهة المستهدفة،فتوى غريبة تجدد العبارة القديمة "من ألف في غير فنه أتى بالعجائب" ولكن الأكثر مفاجأة من فتوى القذافي أن يتخذ المدافعون عنها وعنه من الهجوم على علماء الأمة الربانيين والنيل من أكبر مجمع علمي إسلامي تهفو إليه أفئدة المسلمين، ظهيرا إعلاميا لإسناد جيش المجاهدين المغاوير الذي سينطلق بقيادة القذافي إلى سويسرا.
ولئن عجب الناس قديما من فقه برد والد الشاعر بشار ورأوه أغرب من هجاء بشار لهم، فإن الهجوم على الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين دفاعا عن "فتوى القذافي" هو من باب "فقه برد"،ولهجوم هؤلاء على كبار العلماء أعجب من تسلق القذافي منصة الإفتاء دون استئذان ولا إقامة ولا أذان.
الهجوم الحاد على العلماء المسلمين والإشادة الخارقة بقدرات القائد وعلمه الفائق بأصول الشريعة وفروعها ومقاصدها وقواعدها،لا يقنع أحدا ولا يمت إلى العقل بصلة،وعلى أصحابه أن يستحوا من أقلامهم،فلا ذلك سيجعل القذافي عالما وأنى له ذلك وصلاته المبتدعة يوم عيد مولد النبي صلى الله عليه وسلم دليل على علمه غير"اللدني" بالشريعة مقاصد وأصولا وفروعا، ولا هو أيضا سيجعل الناس يشكون فيصدق وفاعلية مؤسسة تنتظم سلسلة ذهبية من العلماء تضم العلامة يوسف القرضاوي والشيخ عبد الله بن بيه والشيخ محمد الحسن ولد الددو ومحمد علي التسخيري وغيرهم من أعلام الأمة الإسلامية الذين يفقهون معنى الجهاد ويعرفون المجاهدين،كما يميزون الآخرين بسيماهم وفي لحن القول.
غير أن "الفتوى السويسرية" تبعث على التساؤل مجرد التساؤل للارتباط الزماني والموضوعي عما إذا كان إعلان القذافي الجهاد ضد سويسرا ردا انتقاميا منه على الإهانة التي وجهتها إليه سويسرا عندما قررت منعه وطائفة كبيرة من مساعديه من دخول أراضيها،بعد أزمة قديمة بين البلدين،تسبب فيها أحد أنجال العقيد.
وإذا تجاوزنا إشكال تأهيل الإمام القذافي لإصدار فتوى إسلامية مؤصلة واضحة المعالم بشأن الجهاد ضد سويسرا،فإن التساؤل قائم جدا عن إمكانية تحقيق هذا الجهاد وهل سيبدأ العقيد بقيادة جيشه والانطلاق بالمجاهدين المغاوير إلى أرض سويسرا وفتحها على ’’طريقة الفاتح’’ أم أنه سينتهج حرب العصابات والعمليات الانتحارية والأحزمة الناسفة التي يستخدمها تنظيم القاعدة في بعض "جهاداته"غير الموفقة.
أم أن الرجل سيسعى بكل لباقة وهدوء إلى دعم متمردين في سويسرا وتنفيذ انقلاب عسكري بسيط،أم سيعتمد سياسة "تفجير طائرة سويسرية" صغيرة،تقل بضع مئات من المواطنين الأبرياء أو المجرمين ليتم التعويض بعد ذلك عن ذلك الجهاد بدفع مغارم وديات وفدى" للكفار"وهل سيضطر الرجل إلى فتح كل البلدان التي تقع دون بين سويسرا وليبيا،حتى يتمكن من تأديب سويسرا التي تمنع على القذافي دخول أراضيها.
يحق التساؤل أيضا عن أي سلاح سيستخدمه الإمام المجاهد في حربه ضد سويسرا، هل هي الأسلحة التي سلمت في غلاف من الخوف للولايات المتحدة الأمريكية.
وهل سيكون الإنفاق على جيش المجاهدين وعمليات الجهاد بنفس السخاء الذي قضيت منه حقوق ضحايا لوكربي، قبل سنوات؟
السؤال أيضا وجيه وموضوعي عما إذا كانت لوكربي مرحلة سابقة من مراحل الجهاد المقدس للثائر المسلم ضد "الكفار". يحق التساؤل أيضا عن طبيعة جيش القذافي فلا شك أن المسلمين من غير تنظيم القاعدة في أغلبهم لن ينخرطوا في الجهاد غير المقدس،اللهم إلا إذا كانت قبائل الصحراء،ستخرج في حرب جديدة إلى أوروبا، أتوقع أن الأكثر لن يفعلوا،فقد جاءوا
للغنم وليس للغرم.
ويحق التساؤل أيضا عما إذا كان الثائر المسلم أدرك متأخرا وجوب الجهاد، أليست فلسطين ساحة للجهاد واضحة المعالم لا إشكال فيها،أم أن جهاد الرجل فيها هو سيكون على طريقة "إسراطين" ذلك الحل الأسطوري لأعظم مشكلة تواجه المسلمين اليوم.
أم أن الجهاد ضد الكيان الصهيوني يحتاج إلى مشكلة بين الصهاينة وأنجال الإمام القذافي ليحس ملك ملوك إفريقيا بأن هنالك "كفارا يحتلون أرض المسلمين"؟
الجهاد قرار استيراتيجي للأمة المسلمة، وبناء يتكامل فيه القرار السياسي الرشيد، والاستعداد العسكري الفاعل والفاعلية الاجتماعية والدعوية البناءة، وليس الأمر مجرد فرقعة يصدرها شاب متهور أو زعيم يترنح بين ستائر التناقض واللاوعي، ليس الأمر بكل هذه السهولة، وكما أن إعلانه ليس قرار بسيطا بهذا الحجم، فإن الإقدام عليه وممارسته عمليا قرار ذاتي وإرادي يحتاج مقدرات كبيرة من الانسجام الذاتي والاطمئنان النفسي، يناقض فورات التناقض وتتالي الانحدار والارتفاع في مؤشر التذبذب.
إلى إخوتنا الوالغين في أعراض العلماء لا تجمعوا على أنفسكم "حشف المساندة،وسوء كيلة الهجوم" لكم أن تتبعوا القذافي في كل مسيرته وأن تتخذوا منه إماما وقائدا وهاديا ونبيا من "أنبياء الصحراء" وأن تقدموا أعراضكم فداء لعرضه، وربما أرواحكم فداء لروحه عندما يبدأ "الجهاد المقدس" لكن الهجوم على علماء الأمة،خط أحمر،فارتعوا داخل خطوطكم الخضراء،إنها "خضراء الدمن".