الكتاب السماسرة المسوقون للجمهورية الثالثة تزوير للحداثة ونكاية بالمقدس(ح2) / محمد المختار ديه الشنقيطي

المتابع لكتاب الحداثة والدعاء واقع النمو والنهوض في بدايات التأسيس للجمهورية العسكرية الثالثة عندنا اليوم، لا بد يتساءل وهو يشاهد ذلك الكم الهائل من الأخطاء والخيبات، ومظاهر الفساد ودواعي السقوط، والتي لا أستطيع مطلقا نفي أنها ساهمت فيها عهود سابقة تراكمت فيها هي الأخرى جملة من الأخطاء الاجتماعية والفظاعات الفكرية والسياسية، والتي كان بعض كتاب الحداثة اليوم، ومنظري الجمهورية الثالثة من أهل اليسار من المساهمين فيها مساهمات فعالة،

 ومراحل أخرى تعاظمت فيها إمكانات استغلال ضبابية الرؤية واضطراب الأحكام وتوظيف ذلك واستغلاله خارجيا وبأدوات محلية لفرض السيطرة وتقوية أسباب الاحتراب والاقتتال الداخلي وسوء تدبير العلاقات حتى مع الشريك الخارجي، وبسم الهوية أحينا وبسم الحداثة والتطور ومحاربة المقدس سواء ما كان منه مقدسا فعلا أو ما اصطنعت له القداسة؟!
والسؤال الجدي الذي يفرض نفسه هنا على دعاة الحداثة ومنظري الجمهورية الثالثة: هل الركون للنظم القبلية العسكرية والقادة الرجعيين المطالبين بإلغاء المقدس مادامت الحياة في تطور مستمر وما دام شرط تطور والمعارف يمر عبر الاعتراف بنسبيتها ووجوب إخضاعها  للتغير والتطور لازم من لوازم الحداثة والنهوض والنماء؟ وهل من الشروط العلمية ألازمة كذاك للحداثة والتطور ضرورة  مشايعة الطغيان والفساد وفصل الديني عن الدنيوي، وإقصاء، بل وحرب الداعين للرجوع إلى المنابع الأولى للوحي وتراث الأمة، وباعتبار ذلك عندهم هو أهم شرط ومقوم من مقومات النهوض والبعث الحضاري الجديد للأمة كما يعتقدون وله يعملون أن"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بمثل ما صلح به أولها " ؟.
لست على يقين تماما بأن أولئك المنظرين والكتاب المسوقين، والمدافعين عن فلسفة الجمهورية الثالثة وبسم الحداثة والتحديث ومحاربة تسييس الدين والتدين- والإمام الأعلم والأبرز بداه بن البصيري يقول"دين بلا سياسة لا يستقيم وسياسة بلادين خزي الدنيا ونار الجحيم"- ومن منطق ومنطلق التفكير اليساري ومفاهيم الحداثة يعيان وبشكل كافي وفي صميم الحداثة: أن أكثر اللحظات في تاريخ الحضارة والبشرية أهمية وإبداعا هي تلك اللحظات التغييرية الحداثية، وهي اللحظات التي يتم فيها الكشف عن منطق خاطئ مضلل وإبداع منطق جديد يفرضه العلم ويلبي حاجة الواقع، وكما يتواطأ على ذلك واقع وأبعاد فلسفة كانط التحليلية، ومثالية هيغل الكلية، ومادية ماركس الجدلية، وظواهرية هوسرل التأويلية، وبنيوية فوكو التفكيكية، وعلى اعتبار أن ذلك هو مفهوم وغاية الحداثة التي استقطبت مدلولاتها تفكير ومفهوم واهتمام الأدباء والفلاسفة وعلماء الاجتماع، منذ عصر النهضة الأوربية وحتى اليوم، وكان يحتل مكانه المميز في الأنساق الفكرية الكلاسيكية عند كارل ماركس، وإميل دوركهايم، وماكس فيبر، واستطاع لاحقا أن يأخذ مركز الصدارة والاهتمام والأهمية في أعمال كل أئمة الحداثة، ولا سيما هابرماس، وجيدن، وليوتار، وتورين .
لا أرى ولا أعتقد وبمنطق الحداثة  بأن شيئا من كل ما يستحق الفرح والابتهاج من القيم المثالية والحقائق العلمية ومكاسب المدنية ومقومات التنمية، القيم الحداثية التي تستوجب الفرح والسرور حصل منها أو يوجد لها أساس فيما هو قائم ومشاهد ومعروف من الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وحتى الثقافي وفي أي من مراحل الجمهورية الموريتانية والتي كان الحداثيون العلمانيون وخاصة اليسار بجناحيه الكادحين والقومين على وجه التحديد الفاعلين فيها والمسيطرين على قوالب وتوجهات وفكر الدولة وفلسفة النظام السياسي فيها، ولم يكن لغرمائهم وخصومهم من الإسلاميين المسيسين للدين بزعمهم أو المستظلين بظلاله على الأصح فيها من حضور يذكر ولا مشاركاة تؤثر فيحاسبون عليها أو يكرمون؟!
من المعلوم علميا والمفروغ منه تجربة وواقعا أن التقدم المستمر للعلوم والتقنيات، وثورة التكنولوجيا، قد أدخل إلى الحياة الاجتماعية أسباب وعوامل التغيير المستمر والصيرورة الدائمة التي أدت في أحيان كثيرة إلى انهيار المعايير والقيم الثقافية التقليدية في كل المجتمعات والبئات.
وقد تم ذلك وفي ظل أنواع الصيرورة الاجتماعية بمختلف اتجاهاتها وهي التي تحدد السياق العام لمفهوم الحداثة بوصفه ممارسة اجتماعية ونمطا من الحياة يقوم على أساس التغيير والابتكار لروافع العمران ومقومات وشروط النمو وسياسات وقوانين وأنظمة الاجتماع، وعند تلك الانجازات في الفعل والممارسة تكون أكثر اللحظات في التاريخ أهمية وإبداعا هي تلك اللحظات التغييرية الحداثية، وفي عالم الفكر والسياسة تكون هي اللحظات التي يتم فيها الكشف عن منطق خاطئ مضلل وإبداع منطق جديد علمي ومفيد يقوم ما بالحياة من اعوجاج ويبدع الحلول لكل القضايا والمشكلات.
والغائب كذلك عن الحداثيين عندنا علميا وواقعيا هواستحالة إلغاء المقدس، أو حتى تحريف نصوص وحيه بالزيادة أو نقصان، وإن جاز ذلك في قراءته وتطبيقه، وتجارب الآخر المؤثر فينا علميا وفكريا تقول حتى بأن إلغاء المقدس من التأثير في دورة الحياة مستحيل ولا يحل المشكلة إن حصل، وأن الحاصل في النهاية هناك"علمنة" ليس إلغاء وإنما مجرد تلاعب بالألفاظ يتم فيه استبدال عبارات بأخرى، من قبيل الدين والإيمان بالقيم الروحية، وفي الدورة الاقتصادية الربا بالفائدة، وفي الجانب الاجتماعي الزنا بالعلاقات الجنسية، والتفسخ والانحلال بالفن والإبداع، فالحاصل فقط هو استبدال مقدس ديني بآخر لا ديني يتم فيه تقديس متغيرات أخرى من صنع البشر بالتي كانت في أصلها وحقيقة تأثيرها من مفردات وطبيعة الوحي وتواطأ البشر على تقديسها .
وما يغيب كذلك عن تفكير دعاة البعث الإسلامي الجديد، أو تجديد التدين في حياة الناس أنه لا حل أيضا في مجرد الدعوة إلى الرجوع إلى المنابع الأولى، إلا حين تكون القراءة واعية ومن منطلق الفصل بين ما هو من الدين وحيا ثابتا، وبين ما هو من تدين الناس ومفهومهم للوحي بأدوات الزمان والمكان المتغيران باضطراد وانتظام، فالمعروف أن النصوص الأولى لم تنزل في فراغ كما يقول علماء أسباب النزول، وإنما  نزلت في واقع اجتماعي مخصوص ذي مطالب محدودة مخصوصة وحاجات منصوصة  وإكراهات فاعلة، ولذلك جاءت ،أي ،أحكام العمران والاجتماع في طبيعة أحكامها التطبيقية متلونة بلون سياقها الاجتماعي وحاجياته ووسائل عمله، الأمر الذي أظهرها وكأنها لا تغني أئمة السلف عن بذل الجهد الفكري والعملي في التنزيل والتطبيق والتطوير بما كانوا يرونه  يحافظ على المقاصد العليا والثوابت المطلقة  للدين والتدين.
ومن هناك نفهم كيف أن النصوص المتعلقة بأحكام جزئية تفصيلية إنما أجابت عن أسئلة واقعها بأدوات يملكها الفاعلون في هذا الواقع، فإذا تغيرت الأسئلة والأدوات، أحدهما أو كلاهما، أضح التطبيق لتلك الأحكام قاصرا بذاته كاملا بغيره، أو قل بلغة أهل الأصول: ظنية بذاتها قطعية بغيرها، وهذا الغير بالذات هو المقاصد العليا والأحكام الكلية المستمدة من مجموع النصوص الشرعية، فالأحكام الجزئية إنما هي وسائل عمل"المقاصد العليا" في فترة محددة، وليست غايات بذاتها، وهذا من الأسباب التي استدعت نزول القرآن على مراحل، ووجود النسخ في الأحكام، والنهي عن كتابة الحديث في مبتدأ أمر الإسلام .
على هذه الأرضية الفكرية ووفق تلك الشروط والضوابط  تكون عبارة "لا صلاح لآخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" صحيحة تماما مؤدية لغاياتها، إذا كان المقصود منها التأكيد على أهمية الأحكام الكلية المرشدة إلى الثوابت العامة، لكنها تعتبر خارجة عن سياق الإجابة بل ومضللة إذا بقيت على عمومها تضم كل شاردة وواردة، إذ أن لآخر الأمة مطالب وسياقات غير تلك التي كانت لأولها، وكثير مما يصلح لآخر هذه الأمة لم يخطر على بال أحد في أولها، وأي تجاهل للمطالب والسياقات وللوسائل التدبيرية والتشريعية المتجددة هو سير بالناس نحو المجهول الذي لا تؤمن  بوائقه .
وفي جميع الأحوال والظروف فإنه لا غنى للناس والحياة مطلقا عن المقدس الديني وعن تدين الحياة بكامل فروعها وأنماطها، ولا غنى لهم كذلك عن تعريف وضبط حدود المقدس ومعالمه لكي لا يلحقه التزوير والتدليس بقصد أو بغير قصد، بحسن نية أو بسوءها.
وبالقدر الذي لا مفر فيه ولا مندوحة لنا من أن نضبط ثوابت الحياة وقيمها المطلقة، إن لم يكن بهدف بناء رؤية مشتركة وطنية أو دولية تحفز الوعي وتوحد الإرادات، فبهدف فرض الأمن والسلم الاجتماعيين، وهو ما يعني تسييس الدين أو تدين الحياة، وإن كان السؤال العلمي الواقعي الذي يفرض نفسه هنا هو: من يملك حق هذا الإرجاع ؟ ومن يملك الحق والقدرة على تميز المقدس الثابت الأبدي عن غيره الإنساني النسبي المؤقت ؟ وبأي وسيلة ؟ ووفق أي إجراء ؟
ومن منطلق القول بأن: دين بلا سياسة لا يستقيم يكون السؤال الجدي الآخر الذي يفرض نفسه هنا: هل جاء الدين من أجل الحياة ؟ أم إن الحياة هي من أجل الدين ؟ :
الأستاذ محمد عابد الجابري افترض أن الدين من أجل الحياة، بل وأن الآخرة من أجل الدنيا إعمارا وإسعادا وتنويرا، وافترض غيره أن الحياة هي من أجل الدين وأن الدنيا من أجل الآخرة أمنا وسلاما وتنعما، وأهل الإسلام السياسي اليوم وفي موريتانيا خاصة يقولون في عموم قولهم وبمفردات تطبيق سعيهم: إذا كانت الدنيا مزرعة الآخرة، فإن الآخرة بوصلة الدنيا، وإذا كان الدين من أجل الحياة،"وهو كذلك" فإن الحياة أيضا من أجل الدين" وهي كذلك"، فبأيهما بدأت قادك إلى الآخر، ونتيجة هذا التحليل إذن، أنه على الرغم من الاختلاف الشكلي الظاهر لطبيعة كل من الدين والدنيا، ومنهج النظر في كل مهما ما بين منهج غيبي مجرد ومنهج تجريبي مجسد، فإن ما يصلحهما من نظم وتشريعات، وقرارات وتصرفات... يصلحهما معا بالتبعية، وما يفسدهما يفسدهما معا، وهذا عند أهل الإسلام السياسي في موريتانيا هو ما تعبر عنه مقولة إمامهم المربي والمتبوع بداه ابن البصيري"دين بلا سياسة لا يستقيم وسياسة بلا دين خزي الدنيا ونار الجحيم" . يتابع...

24. أكتوبر 2017 - 5:21

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا