يشهد العالم اليوم ارتفاعا غير مسبوق في درجات الحرارة، ويترافق هذا الارتفاع بتقلبات مناخية غير معهودة، كموجات الجفاف، والحرّ والفيضانات والاعاصير، تقلبات لم يسلم منها أي بلد عبر العالم، وتشير معظم دراسات استشراف المستقبل الي ان بلادنا ستكون من أكثر البقاع على الارض عرضة لمخاطر هذه التقلبات حيث يعتقد انها ستتعرض لموجات جفاف بوتيرة أكبر من المعهود.
ان اعتماد قطاع التنمية الحيوانية على انظمة الانتاج التقليدية وادمانه على برامج التدخل السريع، يفرض علينا اليوم، اجراء جرد حساب ومكاشفة حقيقية، فمن غير المعقول ان تُحول موارد الفقراء لتغذية قطعان الاغنياء، خصوصا ان تلك البرامج قد تتكرر بوتيرة متسارعة في السنوات القليلة القادمة.
قطاع التنمية الحيوانية البدايات السليمة
لقد كانت نسبة امتلاك الفرد الموريتاني للماشية الأعلى عالميا، قبل عقد السبعينات، حيث كان القطاع هو العمود الفقري للاقتصاد الوطني، فمنتجاته كانت تثمن بشكل كبير، حيث كان يلعب ادوارا اجتماعية هامة ،جسدت اعلي صور للتكافل الاجتماعي ،فاغلب رؤوس الماشية يمتلكها الملاك الصغار والمتوسطون، كما ان اعدادها تضبط طبيعيا بفعل الاوبئة ،لذلك لم تُسبب ضغطا كبيرا على المراعي ،وظلت حالة التوازن تلك سائدة لفترة طويلة، واستطاع القطاع ان يحافظ على ديناميكيته وتنافسيته بالرغم من اجبار المنمين علي دفع الضرائب ابان الاستعمار الفرنسي.
شكل الغاء الضرائب على الثروة الحيوانية أحد اهم تجليات الاستقلال في اعين الكثيرين في بلادنا، حيث يمكن الحديث عن عقد اجتماعي، يتم بموجبه اعفاء المنمين من دفع الضرائب، مقابل التنازل عن كثير من المطالبات الاجتماعية، وقد ظل هذا العقد يحقق نوعا من التوازن لفترة طويلة.
بداية تغلغل الفساد في القطاع
شكلت فترة التسعينات وما بعدها مرحلة مفصلية في تاريخ القطاع، فقد تحسنت الصحة الحيوانية ،ولم تعد الاوبئة تضبط اعداد القطعان ، كما نجم عن سنوات الفساد و الخوصصة في تلك الفترة، ظهور طبقة جديدة من المستثمرين اعادت تدوير الاموال المنهوبة من خزائن الدولة، مما سبب تغيرا جذريا في مستويات التملك، فصارت اغلب القطعان مملوكة لقلة من الموظفين السامين ،و المتقاعدين من بعض القطاعات المعروفة بفسادها ،وآخرين من متصيدي الفرص، حيث أصبح القطاع يعج بالمتنفذين ومبيضي الاموال ،مما سمح بتشكيل مجموعة ضغط ،تمكنت من تغيير بنود العقد الاجتماعي لأول مرة واجبرت صناع القرار علي الالتزام بتوفير الاعلاف بأسعار مخفضة في السنوات العجاف ،هذا فضلا عن عدم امكانية الحديث عن دفع الضرائب، ونجحت تلك المجموعة في اخذ صغار الملاك كأداة لاستدرار العطف في سنوات القحط، بينما اكتفت هي بجني المكاسب في سنوات الخصب.
اجراءات ضرورية لتصحيح اعتلالات القطاع
بالرغم من اعتماد البلاد في السنوات الماضية على الإطار الاستراتيجي لمحاربة الفقر، فان قطاع التنمية الحيوانية لم يشكل رافعة للنمو، بل تحول الي معوق تنموي، فالقطاع صار ملاذا للتهرب الضريبي وتبييض الاموال، ناهيك عن غياب الاستثمارات واقتصار جهود التطوير على برامج التدخل السريع العبثية.
تعد استراتيجية النمو المتسارع والرفاه فرصة لتحويل القطاع الي رافعة حقيقية وذلك عن طريق الاصلاحات التالية:
• فرض ضريبة التدهور البيئي على قطعان كبار المُلاك، مما سيسمح بتقليل الحمولة الرعوية وتحسين جودة المراعي، وعودة الغطاء النباتي، الامر الذي سينعكس ايجابا على بيئتنا، كما ستنتفي الحاجة الي برامج التدخل وهدر المال العام؛
• اقتصار حق استخدام المراعي الطبيعية على قطعان صغار ومتوسطي الملاك، مما سيعيد للقطاع توازنه بحيث يلعب الادوار الاجتماعية المعهودة؛
• توفير الحوافز لكبار الملاك للتحول لنظام التربية التكثيفي والمعتمد على زراعة الاعلاف، مما سيشجع ادخال السلالات الحديثة وزيادة فرصة تثمين الالبان، وغربلة القطاع وضبطه ليتحول من قطاع للتهرب الضريبي وغسيل الاموال الي قطاع منتج ورافعة حقيقية للنمو.
ستحتاج هذه الاصلاحات الي ارادة سياسية حازمة، نظرا لقوة مجموعة الضغط، وعلى العموم فلن تقدر السلطات العمومية على الاستمرار في توفير الاعلاف لعشرات ملايين الرؤوس في زمن التغيرات المناخية، وفي انتظار اجراءات اصلاح القطاع، سيبقي شعار المتنفذين هو السائد: اعباء سنوات القحط من نصيبكم وجني مكاسب الخصب حق لنا!.