تقول حكاية موريتانية قديمة إن يأجوج ومأجوج يقيمون الحفائر بالليل لفك الحصار عن أنفسهم حتى إذا اقترب الصباح وقطعوا أشواطا بعيدة قال بعضهم لبعض سنستريح بالنهار ونعود في الليلة القادمة ولكنهم دائما ينسون أن يقولوا "إن شاء الله".
وعندما يعودون يجدون كل ما قطعوا من خطوات في الحفر باتجاه الهدف قد عادت إلى ما كانت عليه وكأن شيئا لم يقع ذلك هو حال الدولة الموريتانية وأنظمتها مع كثير من الملفات الوطنية التي تبذل فيها جهود كبيرة سياسية واقتصادية ولكنها بعد زمن وجيز تبقى أثرا بعد عين وكأن شيئا لم يقع ربما كان في ذلك عقاب إلهي لجهدنا الوطني المعاصر الذي اشتالته الشياطين لأنه أسس على غير هدى من الله فانتزعت منه بركة البقاء والنفع العام (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
بين الإرث والكسب
أحداث كيهيدي أعادت للواجهة من جديد المسألة العرقية في موريتانيا وأسلوب المعالجة الذي تعتمده الأنظمة لمقاربة هذا الإشكال حيث كشفت هذه الأحداث غياب التراكم والنظرة المتكاملة لأجزاء الصورة من طرف الممسكين بمقاليد الأمور حيث تطغى المصالح الضيقة للمجموعة الحاكمة على المصالح الوطنية العليا.
يظهر ذلك جليا الآن في هذه الأحداث الخطيرة التي هزت لأول مرة في القرن الجديد كل مناطق الضفة التي يشكل الزنوج غالبية سكانها وهم العنصر الذي تعرض لمظالم مجحفة تطلبت من الأقلية المتحكمة باسم شريحة "البيظان" ذات الصلف المستحكم أن تجثوا على ركبتيها وتركع وتتلوا سفر الاعتذار الميكافيلي وتذرف دموع التماسيح على ما جنت يد الغدر في سالف سنوات الرصاص الدامية... لم ينخرط في هذا المسلسل إلا النظام الحالي وسالفه الذي أحل له ما حُرِّم في شرعة النخبة "البيظانية" المتهاوية.
فكانت جولات الأيام التشاورية 2007 التي أسست لعودة عشرات الآلاف من اللاجيئن تلك العودة التي طالما رفضها ولد الطائع وسلفه ولد محمد فال ثم جاءت بعدها بقليل الجرعة الميكافيلية الثانية والتي أقدمت لأول مرة على فتح ملف الإرث الإنساني المتعلق بتصفيات العسكريين والتعويض لأسرهم وذويهم تحت عنوان التسامح واطراح الغل والبغضاء والتجاوز نحو صفحة جديدة من الاندماج والتي شهدت مدينة كيهيدي ذاتها تظاهرة "صلاتها الجامعة" من أجل التسامح 25- مارس-2009 والتي اقتبست من القذافي في زيارته 11 مارس 2009.
وجاءت ثالثة الأثافي بإعلان الرئاسة رسميا عن تحديد أماكن المدفونين خلال سنوات الرصاص وإن شمل الإعلان أيضا فترات زمنية أخرى لإعطاء الموضوع صبغة عمومية وكانت الخطوة رغم ترحيب العديد من الجهات بها غير مفهومة بما فيه الكفاية وكأنها إنما جاءت لتوظف خدمة لأغراض أخرى.
بذلت كل هذه الجهود خلال السنوات الخمس الماضية غير أنها ولأسباب تافهة هاهي تنسف الآن وتعاد الحرب الإثنية جذعة بدواعي الإحصاء الإداري!! فلا يعقل أن تكون كل الجهود التي بذلت لترميم الوحدة الوطنية تنسف في لحظة واحدة.
إحصاء أم تأميم تجاري
وتستأنف مجددا سنوات أخرى من الرصاص مبعثها هذه المرة اعتماد برامج صممت في الغرب من طرف شركات لا تستوعب بما فيه الكفاية خصوصية الشعب الموريتاني وقومياته المختلفة ويبدوا أيضا أن الرئيس ولد عبد العزيز لم يوفق في اختيار من يصلح لإدارة هذا الملف، وأي موريتاني يعود للحوار الذي بثه التلفزيون الوطني مع مدير المؤسسة المشرفة على هذا الإحصاء سيلاحظ الأسلوب الاستفزازي الذي تتبعه الإدارة المشرفة على هذه العملية التي يعرف الجميع أنه يكاد يكون من شبه المستحيل أن تتسم بالشفافية حتى وإن اختير لها أكثر الناس كفاءة لأن الإدارة الموريتانية مردت على المتاجرة بهذه الوثائق وجعلتها مصدرا للتكسب.
ويلاحظ على البرنامج الذي نفذته شركة فرنسية متصهينة أنه لا يحترم الخصوصية الموريتانية حينما يتعلق الأمر بأن تحمل الزوجة اسم زوجها لا اسم أبيها كما هو معمول به في الغرب وكذا النواحي المتعلقة بتسجيل الزواج إداريا وأكبر متضرر من هذه العملية في المستقبل سيكون شريحة "البيظان" التي تتعاطي مع هذه الإجراءات بطريقة عرفية أكثر من الخضوع لمتطلبات الإدارة، كما أن العملية في مسارها وشكلها الحالي ستحول هذا المجال من مجال خدمة إدارية ذات طبيعية عمومية إلى مجال تجاري شبه خاص حيث إن الكثير من أبناء شريحة "البيظان" لن ينسجموا مع متطلبات الإحصاء الجديد المعقدة وسيلجئون لأساليب الوساطة والرشوة من أجل الحصول على وثائقهم كما سيدخل شيوخ القبائل والعشائر على الخط من أجل تسجيل ذويهم دفعة في المناطق الريفية ولنا أن ننتظر وجود لوائح انتخابية مزدوجة تستخدم عند الحاجة وهذا بحد ذاته كفيل برفع أسعار الوثائق الرسمية التي تتداول نخاسة بأسعار زهيدة نسبيا، وهذا ربما ما يفسر الحماس الشديد الذي يظهره مدير الوكالة الذي هو في الأصل رجل تجارة أكثر منه رجل إدارة لأن العملية في المحصلة النهائية ستدر أموالا خيالية.
وإذا كان جواز السفر الآن يصل سعره في السوق السوداء إلى 50 ألف أوقية فلنا أن ننتظر أن يرتفع سعر شكلية الإحصاء إلى سعر مشابه وكذا بقية الوثائق خصوصا (سجل عقد الازدياد والجنسية والبطاقة الشخصية).
إن الشعب الموريتاني في غنى عن إحصاء من هذا القبيل هو في الحقيقة لعبة كبرى لتسويغ نهب مبالغ هائلة تمول بها هذه العملية. وإلا فمن يصدق أن هذا الإحصاء سينجح وهو يخصص مركزا واحدا ثابتا في كل مقاطعة لتسجيل مئات الآلاف وتحت طائلة شروط مجحفة. ومن المعروف أن كبار السن لن يتفاعلوا معه خصوصا وأن أغلب السكان من الفقراء ولا يوجد ما يحفزهم ليقطعوا عشرات وأحيانا مئات الكيلومترات ليصطفوا طوابير من أجل الحصول وثائق!! ليصوتوا لرئيس فقد المصداقية لديهم ..أم أنهم سيصطفون في طوابير ليحرز غير الأكفاء النجاح في مهام لا يمتلكون مؤهلاتها..لمجرد كونهم أقارب للرئيس.
فردانية تنافي الشفافية
ويعرف العديد من المراقبين أن إدارة المؤسسة الجديدة ترفض حتى الآن إنشاء نظام داخلي للمؤسسة كما ترفض إنشاء إدارة للمصادر البشرية فالغضب الظاهر على الشاشة لا يخفي وراءه إلا الخوف على الامتيازات الواسعة في تسيير أموال الدولة بلا حسيب ولا رقيب وإصرار على تفريغ الشكل المؤسسي الدعائي من محتواه.
وقد لاحظ أحد المراقبين أن المشاريع التي يسيرها أقارب الرئيس هي أكثر المشاريع فشلا وبعضها تجاوز الفترة الزمنية المخصصة لإنهائه وبعضها نجح في الإفلات أصلا من جدول زمني يحدده وخصوصا مشروع الوثائق المأمنة الذي ارتبكت انطلاقته ومر بمراحل كان فيها سيتوقف تماما وربما يكون تطبيقه بهذا الشكل مقصودا حتى يوقف تحت ضغط الجماهير فيتيح ذلك نهب أمواله وتحميل الشارع والمحتجين عليه مسئولية فشله، والمؤكد أن ميزانيته ستذهب ساعتها شذر مذر في جيوب المتنفذين ولكنه لن يتوقف إلا إذا تمكن الممسكون بالقرار من استلام المبالغ المخصصة له. وربما بعد أسابيع أو أشهر نشهد نهاية مسرحية الإحصاء بعد أن تفرج الجهات الممولة له عن آخر الدفعات المالية المخصصة له.
إن الدولة الموريتانية وهي تتخبط في ظل النظام الحالي تنقض غزلها وتتجه لإفلاس شبيه لما حصل في منروفيا ومقديشو مطلع تسعينيات القرن العشرين وهي الآن تعيش على فتات محاربة الإرهاب التي انقضى زمنها وأصبحت من الماضي وتغازل مهربي المخدرات الذين تم تسريح أغلبهم وحمل النظام أشخاص محكمة نظرت في الملف المسئولية عبر إيقاع جملة عقوبات فردية على أربعة قضاة.
إن إحصاء السكان مهم دون شك لكن الطريقة التي اتخذت له تعبر عن جهل عميق بأهمية التراكم في أداء المجتمعات فقد تم القضاء على مؤسسة المكتب الوطني للإحصاء وشرع في بناء المؤسسة الجديدة وهذا بحد ذاته يبعث على الشك في الأهداف التي لأجلها هدمت مؤسسة ذات خبرة وتجربة وأنشأت أخرى جديدة لا بد أن ثمة أهدافا غير معلنة تمت من أجلها هذه العملية...وتلك الأهداف المخفية ربما تكون ذات صلة وثيقة بالتحضير للبقاء الأبدي في السلطة ..إن لم نقل توارثها في النطاق العائلي والعشائري.
استبدال التهديدات بالفتن
وفعلا توجد تحديات وتهديدات تواجه التركيبة السكانية في موريتانيا جراء هجرة أبناء دول الجوار في الغرب الإفريقي عموما ولكنها هجرة متبادلة مع أن الموريتانيون لا يستقرون بشكل نهائي بتلك الدول ولكن أيضا لم تصل هذه الهجرة من السنغال ومالي للخروج عن الحد المألوف فهي باقية ومنذ عقود في حدود عشرات الآلاف رغم أن سكان هذه الدول يتجاوزن عدد السكان في موريتانيا ضعفين أو ثلاثة لكنهم باقون في أرضهم وهجرتهم قليلة نسبيا ولا يشكلون تهديدا استراتجيا كبيرا بالشكل الذي يتطلب بناء سور حديدي ومع ذلك تبقى الإجراءات الدقيقة للإقامة والعبور مطلوبة ويبقى ضبط الحالة المدنية مسألة لا غنى عنها لكن الدولة ستكون في غنى عن حالة تعيد من جديد نكأ جروح الماضي الأليم فضلا عن خلق مظالم جديدة جراء قمع غير مبرر.
إن موريتانيا بحاجة لتفادي المخاطر المحتملة أو المحققة الوقوع ولكنها يجب ألا تفرض على مجتمعها المنوع نمطا واحدا وما هو محتمل من مخاطر يجب ألا يدفع لارتكاب المخاطر المحققة والآنية حيث يفرض على الناس أسلوب إداري لا يرضونه وإلا فما معنى الديمقراطية وحرية الاختيار؟ إن الحكومات تخطأ في التقدير والأسلم هو التراجع عن الخطأ لا التمادي في الباطل.
والمضي في الإحصاء الحالي بالطريقة الحالية التي لا تستجيب لخصوصية واقعنا ولا تلائم طبيعة مجتمعنا ينبغي أن يكون مرفوضا مهما كلف الثمن والإحصاء الحالي لن يخدم مجتمعنا وتوجد الكثير من الأولويات الأخرى التي كان ينبغي أن يتم التركيز عليها بدل الاتجاه لتعقيد حياتنا بأساليب إدارية تتطلب وعيا مدنيا لم يصل إليه شعبنا ولا شك أن الأيدي الظالمة المرتعشة الممسكة بحياتنا اليوم غير مؤتمنة على الدخول في خطط استراتجية كبرى للتحكم في حياتنا ويجب أن نطالبها بتحسين ظروفنا المعيشية المتعلقة بتوفير الماء والكهرباء والطرق والمصحات والتعليم وإلا فإن عليها الرحيل. لا نريد بطاقات مؤمنة ممن لا أمانة له ولا نريد إحصاء فنحن معروفون نعرف بعضنا ونعرف الطارئ علينا ولا حاجة بنا لتأميم تجاري يحول وثائقنا سلعا تجارية يتحكم كما يتحكم في السلع... المستوردة من قبل أقارب صاحب الفخامة والنياشين المزيفة..اللهم عليك بقارون .. (وخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين).