يغص كل قطاع و مؤسسة عمومية في الدولة ـ من غير ما ضرورة مدروسة ـ بعشرات المستشارين الذين لا خبرة لهم من أي منظور مهني كان أو حنكة معلومة على الرغم من كون الاستشارة أهم و أدق وجوه التسيير و التوجيه و الاستشراف على الإطلاق.
و إذ المستشارون هم بالدرجة الأولى ـ و منذ أمد بعيد ـ عمدة الملوك و الرؤساء و القادة و البناة و الوزراء المتميزين، لا يستغنون عنهم و لا يديرون شأنا بنجاح
إلا أن يكونوا محاطين بهم أصحاب الدراية و الحنكة و الفطنة و التبصر، يعتمدون عليهم حتى ليقلصوا قدر الممكن أخطائهم و يبرروا بالإرادة الحسنة و الحيطة نسبة كبيرة من إخفاقاتهم و انزلاقاتهم في مجمل عملهم البشري إلى أقل نسبة ممكنة... فإن المستشارين عندنا لعبة من نتاج الانحطاط السياسي المحاصصي و تكريس لـ"الرداءة" دون الاكتراث بأن الأمر يجري على حساب المصلحة العليا للوطن، يتقاضون الرواتب الكبيرة من الخزينة العامة دون مردوية و يثقلون القطاعات بمختلق المهام الوهمية تحت مسميات خاوية كـ:
- مكلفين بمهام غير محددة المعالم،
- مستشارين بأسماء مركبة من مهام ثقيلة على اللسان خفيفة في الميزان
- مستشارين غير معرفين لا مكاتب لأغلبهم و البعض المحظوظ يجد مكتبا معزولا في قطاع غير قطاعه.
و العجيب المر أن أغلب هؤلاء المستشارين القادمين من كل فج عميق و الذين يزداد عددهم بعيد انعقاد كل مجلس وزراء و عقب كل تقارب أو صفقة سياسوية من تلك التي يُحسن إبرامها في هذه البلاد على خلفيات مدمرة للنسيج و اللحمة و مبعدة لأمل رسوخ دولة المساواة و العدالة، يرافقون الوزراء في كل مهامهم الخاصة و المفتوحة على الوفود، كما يحضرون الملتقيات و المؤتمرات و المعارض و التظاهرات الكبرى ليعود أغلبهم منها خالي الوفاض من تمثيل قيم و معارف تفيد البلد، و منتفخ الجيوب و الحقائب بالهدايا من المقتنيات الثمينة بفضل المال الوفير من خزينة الدولة.
غياب الضمير الوطني و ضعف الوازع الديني
هل يشرف أية أمة أن تظل أوطانها رهينة مساعدات بلدان أخرى، أحرى أن تكون هذه البلاد غنية بالموارد الطبيعية ظاهرها و باطنها؟ لا يمكن أن يأتي الجواب إلا بالنفي القاطع. و على الرغم من أن أهل و مثقفي و حكام هذه البلاد يدركون ذلك جيدا فهم يستسيغون الاقتيات لاستمرار هزيل بقائهم على هذه المساعدات المذلة، فلا تكاد تسمع أو تشاهد نشرة إخبارية إلا و يصدمك فيها كم الأخبار التي تبين عن تقبل نهم للمساعدات بكل أوجهها؛ مساعدات إن لم تكن عينية فهي مادية كالأغذية و السيارات و التجهيزات الصغيرة و الأدوية الثانوية أو المعدات الرياضية و ما شابه ذلك، فإنها تكون على شكل وحدات مركبة أو مبنية كمستوصف أو مختبر صغير أو مدرسة أو حنفيات أو مركبات أو أدوات صيد.. معدات و أجهزة و مستلزمات و أموال لا تصل غالبا بحجمها كما قُدمت إلى المستفيدين المعنيين.. لأن يد "الغدر" التسييري و "موات" الضمائر الوطنية و ضعيف "الوازع" الديني لها بالمرصاد لتقضمها قضما قبل أن تتعقب الذي تبقى منها... أليس في الأمر إشارات بارزة على ارتكاسنا النفسي و هواننا البدني؟
مر الواقع.. الضرب صفحا عن وجع الواقع
و مرة أخرى يقض ألِيمُ التعامل مع الواقع وجه المدنية الشاحب حيث لا صوت يعلو على صوت الفوضوية الصاخبة في حلة البداوة العارية من كل حلل الجمال و الرقة و الانسجام مع فطرة الطبيعة. الكذب يدعى "المجملة" بكل وقاحة فلا يخدش حياء الشاب المتهور أمام الشيخ، و لا يندى له جبين "المثقف" الذي خان أصول المعرفة و وطئ بمنسم عرض الثقافة، و لا يهابه المتمظهر بالدين للوصول إلى مآربه الأنانية، و لا المرأة أمام الملء و لو صونا فقط لأنوثتها المخدوشة. يتعامل الجميع ـ إلا ما رحم ربك – بعملة الكذب و هو راض عن نفسه عاض بالنواجذ على كل مشتقات أفعاله، رافضا باللفظ نعته به في تناقض أسوء من موجباته.
هل لغة تعاملنا متمدنة؟
في كل مرة أشاهد على شاشات بلدان العالم جسورا معلقة على بعد مئات الأمتار فوق صفحات مياه البحار و الأنهار، و أرى الذين صنعوا هذه المعجزات من حولنا فلا أجدهم سوى أشخاصا مثلنا تنتابني قشعيرة الخجل من أحوالنا الراكدة المتخلفة. و حينما أستمع إلى هؤلاء يتحدوثون بلغة راقية هادئة تعج بوداعة المدنية و معانى الحياة السامية و استقامة التعامل في دائرة المجتمع المتكامل ينفطر قلبي لما يطبع أحادينا من حدة و بذاءة ألفاظ تنم عن قسوة في العمق و فظاظة في الطبع و عجز في الظاهر عن التعامل الصحيح مع الواقع و متطلباته و الانتصار على إكراهاته حتى لكأن القطاعات و المؤسسات ضرب من المهرجانات العبثية.