التعداد السكاني: صواب الإجراء وخطأ السياق والإدارة / أحمد ولد محمد المصطفى

 

altيثير التعداد السكاني الموريتاني الجاري –فعليا- منذ الخامس مايو 2011، العديد من الجدل والخلافات بين أطراف سياسية وعرقية في موريتانيا، يؤدي الجدل والخلاف –وشأنه أن يفعل ذلك- إلى ضياع الحقيقة، أو إصابتها بغبش وتشويش شديد.

ويجد الإنسان نفسه أمام صورتين يفرض عليه الوضع اختيار إحداهما أو التغريد خارج سرب المواقف الحدية، وقد لا تترك الأحداث المتسارعة والتي وصلت حد سقوط ضحايا فرصة لكثير من الناس للتروي وأخذ مواقف عقلانية، يكون حظ العقل فيها أكثر من حظ العاطفة، ويخف "مفعول" النعرات فيها قليلا.

والنظرة السريعة للمواقف حول الإحصاء -سياسية وإعلامية، فردية وجماعية- يجدها تسعى في الغالب لترك صورة مفترضة لدى المتلقي تروج لمواقفها، ولا تركز على الصورة الحقيقة للمشروع، كما لا توضح أوجه الاختلالات اللازم تصحيحها، فالسلطة ومن يدور في فلكها يربط مستقبل موريتانيا بالتعداد السكاني، ويجد فيه الفرصة ربما الوحيدة لمعرفة المواطنين من غيرهم، وضبط الأجانب، وإقامة الاستراتجيات التنموية على أسس سليمة وإحصاءات دقيقة، معتبرا أن أوضاع البلاد اليوم ومحيطها الذي توجد فيها، والتطورات التي يعرفها هذا المحيط، يفرض عليها اتخاذ هذا الإجراءات، مرجعا التخوفات لدى المتخوفين إلى دوافع سياسية بحتة، وأياد أجنبية معادية، تصل درجة الموساد، ولا تنتهي عند السنغال.

وهي ذهنية "مردت" عليها الموالاة منذ القدم، فمشاريع النظام "فرص" لا تضيع، وأفكار "القائد" –على افتراض أنه يفكر- إنجازات تستحق الإشادة حتى قبل أن تتجسد، وإلصاق "الخيانة العظمى" بالمعارض وسلبه صفة الوطنية، ديدن الأغلبيات في عالمنا العربي، وفي بلادنا على وجه الخصوص، وليس "البحث" عن أياد خارجية لتعليق الفشل الداخلي بغريب على هذه الأغلبيات وأجهزتها الأمنية المتكلسة. 

لكن الصورة الأخرى المتوفرة عن الإحصاء لدى المعارضة لا تعدو أن تكون هي الأخرى مغلوطة أو مشوشة، وهي التي بدأتها أحزاب المعارضة ونوابها على المشروع، واختصروها في مرحلة من المراحل في إدارتها، وهي وإن كانت تستحق إلا أنه لا ينبغي أن تجعلنا "نغفل مشروعا كبيرا، ونختصره في شخص، ونطالب بإلغاء المشروع ككل، لأن إدراته لدى فلان، وهو لا يصلح للإدارة، لأنه "تاجر" ومقرب من الرئيس، إن "أزمة الشخصنة" لاتزال تسيطر –للأسف- على عقلية أغلب النخب السياسية، وتحضر بقوة –وإن بتفاوت- في مداخلات نواب الشعب ومنتخبيه.

اعتبرت المعارضة بمداخلات نوابها وبيانات أحزابها، أن مدير المشروع الجديد غير مؤهل لإدارته، وأن لجنته تتشكل من عرقية واحدة –في نظرة محاصصة- كانت المعارضة ستنتقدها لو اعتمدت، وطالبت –بناء على ذلك بإلغائه "لأنه عنصري وإقصائي"، وساعدها في ذلك الحديث عن توجيه أسئلة "خاصة" للزنوج الموريتانيين المتقدمين للإحصاء، من قبيل مطالبتهم بالحديث بالعربية، أو قراءة آيات من القرآن الكريم، وهي –إن ثبتت- إجراءات خاطئة وظالمة وانتقائية، لكن لم لا تتم المطالبة بإلغائها لعدم قانونيتها، دون أن تعسف بالمشروع ككل، ودون أن تتحول إلى الصورة النموذجية لمشروع اعتمد في أغلب دول العالم، وأصبح ضروريا لتأمين الوثائق، وتمييز المواطنين من الأجانب، وضبط الأمن بناء على ذلك.

ولعل من الظواهر البارزة في هذا المجال حركة "لا تلمس جنسيتي" والتي ظهرت أياما قليلة بعد انطلاقة التعداد السكاني، ودعت لإلغائه "لأنه عنصري وإقصائي"، لكن تتبع خطابات قادته خلال يجد أن الاعتراضات لديها لا تعدو أن تكون تخوفات – قد تكون لها تبريراتها التاريخية والواقعية في تصريحات إدارة الوكالة- منها عدم التنوع في اللجنة المشرفة وفي اللجان الفرعية، فضلا عن الأسئلة الاستفزازية، وهي في مجملها لا تبرر المطالبة بإلغاء مشروع يجمع الكل على "ضرورته"، ويرى أنه ضرورة "وطنية".

ومع هذا الاختلاف الكبير، والصورتين المتناقضتين، يصبح من اللازم تلمس الصورة الحقيقية للمشروع الجديد، وتأكيد ضرورته في أصله، مع تبيين مشوشات شوشت عليها، منها السياق الذي جاء فيه، وتهور أو "عزيزية" الإدارة المشرفة عليه.

 

- صوابية المشروع:

يكاد يحصل إجماع لدى الموريتانيين على أن الأوراق الجنسية الموريتانية عرفت خلال العقدين الماضيين تزويرا كبيرا، ونالها عدد من المهاجرين السريين، كما استغلها عدد من سياسي المنطقة للدخول في إلى دول لم تكن أوراقه الأصلية تتيح له دخولها.
ومع أن الاتهام يتوجه في غالبه للمهاجرين من أصول إفريقية، إلا أن الأمر في حقيقته كان شاملا، وليست حادثة تسليم مدير المخابرات العسكرية خمسين جوازا موريتانيا تمت مصادرتهم من نشاطين صحراويين تمكنوا من خلال الحصول عليها من دخول الأراضي المغربية، وإثارة القلاقل داخل المغرب، من قصة التزوير الشامل ببعيدة.
ولن يكون لهذا الإجماع فائدة ما لم يدفع باتجاه مشروع يعتمد تقنية جديدة أصبحت معتمدة في مجال تأمين الوثائق في أغلب دول العالم، وهو "القياس الحيوي" أو "البيومتر"، والذي يعرف بأنه "العلم الذي يستخدم التحليل الإحصائي لصفات الإنسان الحيوية"، ويجد قيمته في أن "الصفات الفيزيائية والسلوكية للإنسان لا يمكن نقلها للآخرين ولا يمكن للإنسان نسيانها ولا سرقتها"، وتستخدم لذلك بصمات الأصابع أو هندسة اليد، أو شبكيات العين، وأحيانا اختبار قزحية العين، وملامح الوجه، فضلا عن المعلومات المدنية والتوقيع الشخصي.
وفي ظل التهديد الذي تعرفه منطقة الساحل والصحراء، وانتشار الجريمة العابرة للقارات، وتطور عمليات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، فضلا عن تحدي اعتماد شبكات المخدرات على موريتانيا كمعبر لهذه المادة المربحة في الشمال، وتيار المهاجرين السريين الجارف، والذي يتخذ هو الآخر من موريتانيا معبرا إلى "جنة الشمال" يكون كل موريتاني حريص على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بضبط الموجوين على أرضيها، وتأمين وثائقه الرسمية، وضمان الطرق الكفيلة بتمييز المواطنين من الأجانب، المقيمين من العابرين، الشرعيين من "المهربين".
وبناء فالمشروع أضحى ضرورة لموريتانيا، يفرضه موقعها الحساس، وأمنها "المهلهل" وتركيبتها السكانية" المنتافرة" للأسف، ومواكبة تطور العالم الذي يسخر سكانه من "جوزاتنا" المخطوطة "باليد" والمعتمدة على أرشيف ورقي قد يكون الضائع منه أكثر من المحفوظ.
لكن أهمية المشروع وضرورته اصطدمت في الواقع بعقبتين كبيرتين، أدتا "لدخوله" نفقا خلافيا قد لا يخرج منه، إن لم يدفع بالبلاد وسلمها الأهلي ككل إلى مصير مجهول، وهما السياق السياسي، وسوء الإدارة المسؤولية عنه.

 

- سياق الإحصاء:

جاء الإحصاء الجديد في أوج أزمة سياسية خانقة ومتراكمة بين النظام الموريتاني وقوى المعارضة بعد انقلاب "فج" قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز على رئيس منتخب يقول هو كما جاء في آخر مقابلة مع افرانس 24 إنها "كانت شفافة".
كما جاء كإحدى الخطوات الأحادية للنظام في أوج بحثه عن إنجازات كبرى في إطار الاحتفالية بخمسينية الاستقلال في الثامن والعشرين نوفمبر 2010، وإن كانت الإجراءات الفنية أخرت انطلاقته حتى الخامس مايو من العام 2011.
وطبيعي أن المعارضة التي رفضت الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية المنظمة في الثامن عشر يوليو 2009، والتي أعلن فيها نجاح ولد عبد العزيز بنسبة مأوية جاوزت 52% لن تجاريه في "مشاريع" تراها نوعا من الهروب إلى الأمام من نظام "عسكري انقلابي"، يسعى لفرض نفسه من خلال انتهاج سياسة الأمر الوقع، ويتهرب من استحقاقات الشراكة الوطنية والحوار مع الفرقاء الذي الترزم به بناء على بنود اتفاق داكار.

ولم يكن هو المشروع الوحيد للرجل الذي واجه "معارضة" شاملة في كل تصرفاته، وساعد المعارضة فشل النظام وأغلبيته في توصيل الصورة الحقيقية لمشاريعه، والتي ضاعت بين الكرنفالية والشخصنة ومحابة الأقارب رغم انعدام الكفاءة، فلم تضيع فرصة للتشويش على كل مشاريعه، كما استفادت من "استبداديته ودكتاتوريته وغياب التشاور في أجندته"، فجنى بذلك خسائر –سياسية على الأقل- من حيث كان يبحث "عن الربح"، وربما النصيب من الصفقات".
وإقدام النظام على إطلاق "المشروع الوطني" دون التشاور مع الأغلبية –أحرى المعارضة- والسعي لاعتباره "إنجازا شخصيا"، وحضور الشخصنة في مختلف مشاريعه، فضلا عن مهارة وتجربة معارضته، جعل المشروع "الإيجابي في أصله"، يتحول إلى خطر على الوحدة الوطنية، ومثير للنعرات العرقية، ومفجر لاحتجاجات وانتفاضات في العاصمة نواكشوط وفي مدن الضفة الجنوبية، أنهت حياة شاب بريئ، وخلفت عشرات الجرحى والمعتقلين، وأحرجت النظام وحولته إلى موقع المدافع والباحث عن مشجب يعلق عليه فشله، فتراوحت اتهاماته بين الموساد الإسرائيلي وأجانب سينغاليين، لم تتردد بعض مواقعه أن تجعل من بينهم "وكلاء شرطة في الأمن السنغالي"، كانوا يقومون بمهمة تأطير الاحتجاجات كما أكد بيان وزارة الداخلية، في تمثيلية يدرك المتحدث بها عدم إقناعها فضلا عن المتلقي.

 

- سوء الإدارة:

كما ساهم في تشويه المشروع أيضا سوء إدارته المشرفة عليه، والمحاباة الجلية في اختياره، ربما بسبب لأن حجم تمويله لا يمكن أن يسلم لأحد من خارج "نطاق الأسرة، وأبناء العمومة"، وأججت "الخرجات" الإعلامية غير الموفقة "للمدلل" المشرف على المشروع نطاق الغموض حوله، كما زادت من شكوك الخائفين منه.

"فتاجر الغاز المنزلي" كما سمته المعارضة في حديث نوابها وبيانات أحزابها، كان يتصرف في المشروع بمنطق "الهبة الأخوية" وينظر إلى كمشروع تجاري ربحي، نجح في تحييد منافسين كثر، وانتزع منهم صلاحياتهم، ومن بين هذه الجهات الشرطة التي انتزع منها إنجاز بطاقات التعريف وجوازات السفر وبطاقات إقامة الأجانب، كما انتزع إنجاز شهادات الجنسية من الإدارة المدنية، حيث كانت من اختصاص الولاة، ولم تسلم وزارة النقل من هذه المنافسة حيث أخذ منها البطاقات الرمادية للسيارات، ورخص القيادة.
وبدل اعتماد الكفاءة والوطنية في اختيار المشرفين على الحوار، والبحث عن الشخصيات الإجماعية، وإرسال رسائل طمأنة لكل أعراق موريتانيا، ركب ولد عبد العزيز رأسه ومنح "أكبر مشروع" في تاريخه لأحد مقربيه "واقعا ونسبا" ربما حرصا منه –كما تقدم- على المبلغ المالي المرصود للمشروع، وانتزاعا للقيمة من شركاء الوطن، وشركاء السياسية، واعتمادا للعقلية العسكرية "فما دام هو الأقوى الآن فليتصرف كما يحلو له، وأي إتاحة للفرصة للخصم –إن لم نقل العدو- قد يقويه علينا"، إنه منطق العسكر، منطق "حضرات" و"نفذ ثم فكر".
وكانت النتائج أن غابت الرسائل المطمئنة للمتخوفين، وحضر الاستفزاز والتبجح "بالقوة" والتهديد الصريح والمبطن، والتركيز على "التداخل الديمغرافي الجنوبي" وإهمال التداخل الشمالي، والعجز عن اعتماد المنطق الوطني في نزول يصل أحيانا درجة "مستنقع القبيلة والقومية النتن".
وخلاصة القول إن –كانت له من خلاصة- هي أن النظام العسكري الموريتاني أفشل مشروع التعداد السكاني باعتماد نظام الأمن المعتمد عالميا، ودفعه التهور والتكبر لإطلاقه في السياق الخاطئ، واختيار الإدارة السيئة، وهو ما جنا ثمره في من خلال إعادة موريتانيا إلى مربع "فتنة" يرغب جميع الموريتانيين في تجاوزها، ويلعنون "موقظها"، وأنكأ جرحا لإخوة في الدين والوطن كانوا بحاجة للاحتضان والحب والتضامن "والطمأنة" وحتى التمييز الإيجايي، من أجل إقامة "دولة وطنية" على هذا المربع الذي قدر الله لنا أن نعيش فيه معا، واستخلفنا فيه، وتعويلنا أن مواطني موريتانيا الحقيقين "لن يتركوا حماقات النظام العسكري، وانتهازية السياسيين الفاشلين"، تقتل حلمهم في دولة وطنية لكل الموريتانيين.

6. أكتوبر 2011 - 17:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا