المشهد الإعلامي في موريتانيا إلى أين ؟ / سعدبوه ولد الشيخ محمد

مع بداية وصول الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى السلطة، اتخذ قرارا واضحا بفتح الحريات العامة، والحريات الإعلامية بشكل خاص على مصراعيها، وانتهت عقود من تكميم الأفواه، ومصادرة الآراء، والرقابة على الإعلام، وتم تتويج هذا التوجه بقرار تحرير الفضاء السمعي- البصري، وتسابق الجميع بنهم، وبفوضوية – برأي البعض- يسبحون في فضاء الحرية المفتوح مثل فضاء الصحراء الموريتانية، وما هي إلا أشهر، حتى منحت موريتانيا لأول مرة الترخيص لخمس قنوات تلفزيونية حرة، وخمس إذاعات.

وفي مجال الإعلام الإلكتروني، شهدت البلاد طفرة كبيرة، وانتقلت المواقع الإلكترونية من بضعة مواقع، إلى مئات المواقع، التي تنشر الغث والسمين، وتمارس النشر دون مراعاة لمعايير مهنية، أو قانونية، أو أخلاقية – في بعض الأحيان-، ورفض نظام ولد عبد العزيز مرارا محاسبة أي شخص بسبب ما ينشره، وهو ما عـُرف ب"إلغاء الحبس في قضايا النشر"، وبذلك تصدرت موريتانيا محيطها العربي، والإفريقي في مجال حرية الصحافة، وتربعت لسنوات على عرش الصدارة.

لكن هذه الصورة الوردية لا تعكس إلا الجانب الممتلئ من الكأس، وهناك جانب فارغ، تزايد، وتعاظمت تأثيراته، حتى عم معظم الجانب الملآن، لتصبح الكأس بثلاثة أرباع خاوية، ولعل أبرز ما يشكل الجانب السلبي في المشهد الإعلامي الموريتاني اليوم هو الوضعية المزرية التي تعيشها جميع المؤسسات الإعلامية الخاصة بدون استثناء، بسبب غياب التمويل، وانعدام الإشهار، وتجفيف منابع التمويل الموجه للإعلام، ومعلوم أن الإعلام هو في النهاية "صناعة"، والصناعة لا بد لها من إنتاج، والإنتاج لا بد له من مواد أولية، وتلك تتطلب طاقات بشرية، ولوجستية لا تتوفر إلا بالتمويل.

لكن من الواضح أن الرئيس ولد عبد العزيز مصمم على اتباع المعادلة التي تقول.." نمنحكم الحرية، والحرية فقط، وإذا لم تقدروا على الصمود، فأغلقوا مؤسساتكم"، هكذا قال ولد عبد العزيز حرفيا في إحدى خرجاته الإعلامية الشهيرة، وهو – أي ولد عبد العزيز- بذلك كمن يمنحك سيارة حديثة، لكنه يمنعك من تزويدها بالبنزين، لتظل متوقفة دون حركة، بمعنى أن النظام ليس معنيا بخلق نهضة إعلامية وطنية، تساهم في تنوير الشعب، وتشكل رافدا للديمقراطية، بقدر ما يهم النظام أن تظل حرية التعبير مفتوحة بشكل زائد، لتظل تقارير المنظمات الدولية تضع موريتانيا في الصدارة، بينما الإعلام حقيقة يعاني، بل ويموت اختناقا، وهذه المعادلة في الحقيقة أوصلت المؤسسات الإعلامية إلى الموت في سن مبكر، حتى قبل أن تنضج التجربة

فجميع الإذاعات – باستثناء واحدة- اضطرت للإغلاق نهائيا، وجميع التلفزيونات أغلقت كذلك، والمواقع الإلكترونية، والصحف تترنح في سكرات الموت، تقتات على فتات تجود به مؤسسة هنا، أو مسؤول هناك، لأغراض شخصية بحتة، وبذلك الدعم "الفتات" تتحكم تلك الجهات في الخط التحريري لتلك المواقع، أو الصحف، فمن يوفر لك قوت يومك، باستطاعته أن يملي عليك شروطه بكل سهولة.

صحيح أن النظام خصص مبلغ 200 مليون سنويا لدعم الإعلام الخاص، وهو دعم ينطبق عليه تماما ما ينطبق على دعم الدول الغربية للدول الفقيرة، معظمه تستولي عليه جهات حكومية (المطبعة الوطنية مثلا)، والباقي يوزع بطريقة مثيرة للشبهة على المؤسسات الإعلامية، ليصلها في النهاية مبلغ زهيد، لا يكفي لإنتاج حلقة تلفزيونية بالمعايير المتعارف عليها لمدة شهر واحد.

إذا كان هذا واقع المشهد الإعلامي الخاص في ظل نظام الرئيس ولد عبد العزيز، فإن الصورة تبدو مختلفة تماما بالنسبة للإعلام الرسمي، فقد تضاعفت ميزانياته، وتم تمكينه من كل الموارد المالية، وافتتحت الإذاعة الوطنية محطات في عواصم الولايات، وبات مديرها يسرح، ويمرح في مئات الملايين من مال الشعب، دون خدمة إعلامية ذات فائدة تذكر – باستثناء قناة المحظرة-، وكأن تغطية زيارات الرئيس للداخل، والابتكار في فنون التزلف، والمدح سببا كافيا لصرف تلك الميزانيات الضخمة، أما التلفزة الموريتانية، فقد بدلت جلدها، واسمها، وأصبحت تـُدعى "الموريتانية"، والتعريف هنا بأداته "ال" يحتاج لدرس نحوي، لنتبين هل هي "ال" للاستغراق، أم هي ال العهدية، أم هي ال لتعريف الجنس..، المهم أن "الموريتانية" تعاظمت ميزانيتها، وتناسلت، وتبدو اليوم حـُبلى، تنتظر توأما من قناتين جديدتين: ثقافية، ورياضية، وهو ما يعني أن التضييق الممنهج على الإعلام الخاص، يقابله الإنفاق المفتوح على الإعلام الرسمي، وعلى الجميع أن يستنتج الخلاصة من ذلك.

واليوم- وبعد سنوات من هذا الانفتاح- يبدو المشهد الإعلامي في البلد قاتما، فبعض الكفاءات الإعلامية هاجرت إلى الخارج، بعد يأسها من وطنها، وبعضها ترك مجال الصحافة نهائيا، بعد أن أصبحت مهنة من لا مهنة له، وبعد أن هانت حتى سامها كل مفلس، أما النظام فلم يدرك بعد أن توفير خدمة إعلامية مهنية للشعب هو حق، وليس مكرمة، فالولوج إلى المعلومة، والاطلاع على ما يدور في البلد، ومتابعة تسيير الشأن العام، بكل شفافية هي حقوق ثابتة للشعوب في الدول الديمقراطية، لا تقل أهمية من الحق في التعليم، والصحة، والماء، والكهرباء، وقد قالها قبل يومين السفير الأمريكي في انواكشوط، إن على النظام أن ينفتح إعلاميا على شعبه، ويوفر المعلومات عن سياساته، ومعلوم أن وسائل الإعلام الرسمية لا تهتم إلا بالتغطية الشكلية، السطحية، المطبلة لأنشطة النظام، وهي غير مؤلة للعب دور الإعلام الخاص.

صحيح ما قاله الرئيس ولد عبد العزيز، يمكن لوسائل الإعلام أن تغلق أبوابها إذا لم تحصل على التمويل، ويذهب عمالها إلى البحر – على حد وصية محمد جبريل، وزير الشباب والرياضة-، وبعد إغلاق الإذاعات، والتلفزيونات الخاصة، وتمييع الصحافة الإلكترونية، لن تسقط السماء على الأرض، وقد لا تخرج مظاهرات في الشارع ضد ذلك، بل قد يهدأ الوضع أكثر، لكن لا يمكننا حينها أن نتحدث عن بلد ديمقراطي في القرن 21 بإعلام أحادي القطب أبدا، كما أن الإعلام البديل (وسائل التواصل الاجتماعي) سيملأ فراغ الإعلام التقليدي الخاص، وسيكتشف النظام أن إسكات هذا الإعلام، ومضايقته كان خطأ فادحا، فمتى سيدرك الرئيس ولد عبد العزيز أنه ليس بالحرية وحدها يحيى الإعلام

2. نوفمبر 2017 - 8:52

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا