حدثني أحد السياسيين أنه اجتمع بعيد انقلاب السادس من أغسطس بأحد الدبلوماسيين الأوربيين، انفتح الدبلوماسي على غير العادة، وأعطاه حكمة تثبت الأيام صدقها، وعصارة تجربة دبلوماسية كان حظ موريتانيا منها وافرا،
قال له "لقد عملت في موريتانيا في أولى فترة ولد الطائع، وعرفته عن قرب، ثم حولت عن موريتانيا قبل أن أعود إليها في هذه الفترة، وأصدقك الحديث حين أقول لك إني لم أر تلميذا لولد الطائع أكثر نجابة من قائد الانقلاب الحالي".
من باب الاعتراف بالواقع فالرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطائع يفرض حضوره "القوي سلبا أو إيجابا" على نواحي مختلفة من الحياة العامة في موريتانيا، فتركة عقدين وزيادة من الزمن لا يمكن تجاوزها بسهولة، وقد يتجاوز إرث الرجل الأفعال والآثار المادية إلى "ترك البصمة في شخصيات بعض من عايشه، يصعب عليها فيما يبدو التخلص منها، ربما بفعل غلبته لها ردحا من الزمن، و"المغلوب مولع بتقليد الغالب".
ففضلا عن الخطابات والسياسات... وحتى اختيار المعاونين... دعونا نقف مع مجموعة من الأحداث الأخيرة التي عرفتها موريتانيا، لنستجلي من خلالها تقليد التلميذ النجيب لأستاذه، أو متابعة المغلوب للغالب وولعه بالسير على خطاه...
أولا: قضية الزنوج:
فقد عرف هذا الموضوع تطورات متسارعة –خلال الفترة الأخيرة- توحي بأن النظرة لهم لدى الرجلين متطابقة –دعك من الكرنفاليات- وانظر معي إلى أحداث الجامعة، ورعاية الجهات الأمنية للأحداث العرقية فيها، بإشراف مفوضي شرطة من عين المكان، ثم الإهانة البروتكولية التي تعرض لها الرئيس الموريتاني السابق ورئيس مجلس الشيوخ با امباري، وثالثة الأثاثي "استحقار الحصانة البرلمانية" بالتفتيش المهين الذي تعرضت النائبة البرلمانية عن حزب اتحاد قوى التقدم كاديتا مالك جالو عند مدخل مسقط رأسها كيهيدي، وقبل ذلك إثارة مشكل النقل مع السنغال ربما في سعي لربط الأحداث التي ستجري في الداخل بأطراف في الخارج، وهو ما تحدث عن أطراف إعلامية في موريتانيا، وعموما قد يكون التنظيم مبررا والدواعي الأمنية قائمة؛ لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل التوقيت.
تتابع هذه الأحداث وتقارب فترتها، يوحي بأن الرجل ينظر بعين سلفه الحقيقي معاوية ولد الطائع، ويرى في شركاء الوطن "خطر مهدد" ينبغي التعامل بعه بحزم، وقد يكون سببا لتقوية الكرسي من خلال جعل مكونات الشعب الموريتاني تستشعر الخطر، وتحتمي بالنظام من بعضها البعض، وقد ينظر بعضها للنظام كوسيلة حماية، وحينها سيكون الطرف الآخر يرى فيه عدوا؛ هي طريقة قديمة متجددة للأنظمة القمعية والدكتاتورية، فهي تسعى لأن تجعل من نفسها "حام للوطن" وحافظ لوحدته، وتحاول ربط مصيرها بمصيره، وتصور زوالها خطرا حقيقيا على الوحدة الوطنية، وتذكروا بالمناسبة حسني مبارك...
ربما كان التلميذ سيء الحظ لأن الناس أصبحت أكثر وعيا وأقدر على كشف "المؤمرات" التي تحاك ضدهم، ولم تعد الألاعيب المكشوفة تنطلي عليهم، ولو كان التلميذ النجيب في غير هذا الزمن لكانت الأمور قد تطورت بشكل أكثر خطورة.
ثانيا: قضية الرق:
وفي هذا الموضوع صار التلميذ على مسار سلفه -الحقيقي- فقد تعامل مع الحقوقيين المهتمين بموضوع الاسترقاق بالمنطق الذي طبقه ولد الطائع، وهو منطق سبق للمهاتما غاندي أن وضعه كقاعدة تحكم القوى الاستعمارية والاستبدادية في التعامل مع دعاة الاستقلال والتحرر، فهم –يقول المهاتما "يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، ثم تنتصر"، وقد مر التلميذ – كما فعل ولد الطائع- مع معاصريه من الحقوقيين بالمراتب ذاتها، فقد تجاهلهم ثم سخر منهم واتهمهم بأنهم طلاب مناصب، وأن عددا منهم التقاه وطلب منه التوظيف، ثم حاربهم وسجنهم.. ثم...
يضع التلميذ المميز العديد من العقبات في طريق معالجة موضوع الاسترقاق، ففضلا عن الامتناع عن معاقبة المتورطين في قضايا الاسترقاق، تجد الشرطة في الحالات التي تبلغ فيها بطيئة التحرك، -تماما كما وقع لها في أحداث الجامعة- متعاونة مع المتهمين، بل يصل الأمر أحيانا درجة استخدام سيارات الشرطة لنقل وثائق لتوظيفها في تبرئتهم، لكن ستكثر وتسرع حين يكون الأمر متعلقا بقمع متظاهرين مسالمين، أو لمطاردة سائقي السيارات في الشوارع... ويتصور ولد عبد العزيز أنه بهذه الأساليب قادر على "حماية المجرمين" أو "تضييع حقوق المظلومين".
لكن سوء حظه أن زمنه مختلف جدا عن زمن ولد الطائع، وأن الشعوب اليوم عصية على التطويع والانصياع وراء الترهات، وأن أصحاب الحقوق لا بد أن ينالوها مهما طال الزمن، وأن زمن الالتفاف على الحقوق ووضع العقبات والمطبات في سبيل دعاة التحرر لن يفلح في كبح اندفاعهم في سبيلها، على التلميذ المميز أن يترك العدالة تأخذ مجراها فهي أفضل وسيلة لحماية الجميع؛ ظالما أو مظلوما.
ثالثا: قضية المعهد:
وفي هذه القضية أيضا تتشابه طريقة تعامل الرجلين مع الملف، بل وطريقة "أوصيائهما" عليه، ففي الأعوام الأولى لتولي الدحه ولد مولود لإدارة المعهد، واجه الطلاب بكل حزم مستخدما أحيانا عضلاته ومليشياته التي أنشأها لهذا الغرض - تبين بعد سقوطه أن عددا منهم كان معارا من جهات عسكرية وأمنية لترويض طلاب المعهد، وأحيانا كان المدير يستخدم الأسلوب الذي نشهده اليوم ماثلا أمامنا باللجوء لقوات الشرطة والحرس، وسجن الطلاب وتهديدهم بالمحاكمة –إن لم يعتذروا- والتبجح أمامهم بأن بالمعهد "منحة كريمة من السيد الرئيس، وقد أعطاها للمدير ليتصرف فيها كما يشاء".
إطلاق اليد لقوات الأمن في مواجهة طلاب المعهد العالي واستدعاء الحرس، يدل فعلا على أن الرئيس منح المعهد للمدير، وربما منح له معه مفوضيات في نواكشوط لاحتجاز طلبة المعهد حتى يعتذروا له عن جرأتهم الزائدة، والتي وصلت درجة الوقوف بباب مكتبه والمطالبة بالمنح قبيل نهاية العام، بعد مماطلة طويلة، واستمرار احتجاز الطلاب يدل على أن "التلميذ يغذ الخطا، ويعدد الاحتمالات حتى لا يخطأ أي خطوة من خطا معاوية".
رابعا: تفوق التلميذ:
وارتباطا بموضوع المعهد العالي تجدر الإشارة إلى نقطة تفوق فيها التلميذ على الأستاذ، فقد كان الأستاذ بارعا حقا في الاستفادة من النعرات العرقية والجهوية، وقد قلده التلميذ فيها، لكن الأستاذ كان يدخر إثارة النعرات الجهوية لأوقات الانتخابات، ويستهدف بها العوام بشكل أساسي، وقد نجح في ذلك بشكل كبير، حيث فشلت حملات رئاسية متعددة، وإجراءات متنوعة في تغيير الصورة التي رسمها الأستاذ معاوية عن أحد قادة المعارضة في بعض مناطق موريتانيا، أما التلميذ فقد استخدم النعرات الجهوية بعيدا عن الانتخابات وليس بين العوام وإنما في نواكشوط، وبين طلبة مؤسسات التعليم العالي، فأن نكون أمام وقفتين في مؤسسة تعليم عال (المعهد) تتهم كل واحدة منهما الأخرى بالجهوية وبالتسيس، وتنزل لمستوى رفع شعارات جهوية محضة، أمر يدفع للتساؤل عن الدافع؟، وعن المستفيد؟.
وبقليل من التأمل ستجد أن أيادي النظام لم تكن بعيدة عن الموضوع، فشغل شباب مؤسسات التعليم بفتن عرقية (في جامعة نواكشوط) وجهوية (في المعهد العالي) سيحرم المبادرات الداعية للثورة ضد النظام من وقود هي بحاجة إليه، هذا في حال لم تتطور الأحداث –كما كان يراد لها- لتشغل الجميع عن الموضوع برمته، وتصرف الأنظار عن أيام الغضب والحراك الاجتماعي برمته، وربما توفر "قنابل" قد تفجر في قابل الانتخابات، وتستخدم ضد طرف ما في دعايات الحملة.
مشكلة "التلميذ المميز" تكمن في عدم وعيه بتغير الزمن، "فزمنه غير زمن الأستاذ، وظروفه غير ظروفه" الأساليب التي يستخدمها اليوم كانت رائعة وناجحة لكن في القرن الماضي، كان الشعب الموريتاني حينها في وضع يسمح باللعب على عقله، بألاعيب تجعله فعلا ينشغل عن أهدافه الحقيقة، ويدخل في نزاعات جانبية وفتن خاسرة، وهو ما يتيح للأنظمة الفرصة للتصرف بعيدا عن الرقابة، ودون خوف من تحرك الشعوب أو شكايتها، لكن الزمن الآن غير الزمن، والشعب غير الشعب، ولعل في تجاوز طلاب جامعة نواكشوط للمشكل بسرعة, وتوقيع كل النقابات على بيان موحد يعري الفاعل الحقيقي وراء الأحداث، ويؤكد تعالي الطلاب على "الانتماءات الضيقة"، وكذا توجه طلاب المعهد لتجاوز مشكلهم وتنظيمهم –بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم - وقفات أمام المفوضيات للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين خير دليل.