لا شك أن صفة وممارسة الفتوى من الأعمال الخطيرة والمهام الشرعية العظيمة التي ينوب فها الشخص عن رب العالمين ويؤتمن فيه على شرعه ودينه، فالقائم على الفتوى قائم مقام النبي- صلى الله عليه وسلم- مما يعني أنه يجب على المتصدي للفتوى أن يكون غرضه ابتغاء وجه الله والنجاة في الدار الآخرة، وهدفه هو بيان الحق ولا شيء سوى الحق،ويجب عليه فيها البعد عن الخضوع للرغائب والأهواء، أو مجارات لتطورات العصر ورغبات السلاطين،
وأن عليه أن يدرك علما ويقينا أن الله لا يعبد إلا بماشرع، ولا يكون القول والعمل مما شرع الله ورسوله إلا إذا كان قائما على الدليل القطعي الثبوت والدلالة من الكتاب والسنة، وما لم يكن كذلك مما هو قائم على الدليل الظني، فهو مجال الاجتهاد والاختلاف وفق تحقيق مقاصد الشريعة في جلب المنفعة ودفع المضرة والتخفيف والتيسير على الناس في أمور حياتهم وضرورات معاشهم وتحصيل سعادتهم، ووسائل ذلك وأدواته عند المفتي هي العلم والتقوى والتجرد.
وقد سعى العلماء المجتهدون قديما وحديثا لتحقيق ذلك وتجسيده في واقع الناس، وظهر بينهم التنوع في الفتوى، والاختلاف في الاجتهاد، هم في كل ذلك يشملهم ويسعهم قوله- صلى الله عليه وسلم-في الحديث المتفق عليه:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر"، وغني عن القول إن الحاكم المقصود هنا هو المذكور في قوله تعالى{ لعلمه الذين يستنبطونه نتهم}. ومعلوم أن علماء الأصول قد اختلفوا في قبول أخبار الآحاد جملة، فإذا استدل المستدل على حكم من الأحكام بخبر الآحاد، فإن للمعترض أن يمنع قبول أخبار الآحاد .
ومسألة الولاية في الزواج ما هي إلا واحدة من تلك المسائل المستدل عليها بدليل الظني، من حيث الدلالة في القرآن، والظني الثبوت في الحديث، والدعاء الإجماع في أي من القولين أنانية تعصب رجولي، والدعاء تقليد أعمى، فهي مسألة خلاف بين الأئمة المتبوعين والكبار من العلماء، كغيرها من المسائل الكثيرة الثابتة عن طريق الدليل الظني، في مسائل العبادة المحضة عند الفقهاء، وفي جزئيات حتى من أركان الدين ولنأخذ مثلا الأمثلة التالية:
1- قال المالكية: لا نكاح إلا بولي، ودليلهم حديث"، وهو نص حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد، وجميعهم عن أبي موسى الأشعري، قال الحافظ في التلخيص الحبير: وقد جمع طرقه الدمياطي من المتأخرين .
2- وقالوا من مس ذكره انتقض وضوءه، بقوله – صلى الله عليه وسلم-" من مس ذكره فليتوضأ"، أخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد/ عن بسرة بنت صفوان، وصححه الترمذي ولفظه" فلا يصلى حتى يتوضأ"، قال البخاري"هو أصح شيء" في هذا الباب، وعند ابن ماحه" من مس فرجه"، وصححه أبوزرعة وأحمد.
3-قالوا : أن النبيذ حرام بقوله – صلى الله عليه وسلم-"كل مسكر حرام"، أخرجه مسلم وأبو داود النسائي والترمذي وأحمد، عن ابن عمر، ولفظه" كل مسكر خمر وكل مسكر حرام"، وفي رواية لمسلم والدار قطني" وكل خمر حرام".
والأحناف هم من ردوا هذه الروايات قالوا: هذه الأحاديث لا تصح، فإن ابن معين قد قال: ثلاثة لا يصح فيها عن النبي – صلى الله عليه وسلم- شيء: لا نكاح إلا بولي، ومن مس ذكره فليتوضأ، وكل مسكر حرام .
قال المالكية جوابا على ذلك: إن مثل هذا لا يرد به الحديث إذا أتى على شروطه، لأن سبب الرد لم يبينه ابن معين، ولعل له فيه مذهبا لا يساعد عليه،
4- قالوا : لا يشترط التواتر فيما تعم به البلوى، واشترط الأحناف ذلك، ومثال ذلك: قل المالكية والشافعية، بوجوب الوضوء من مس الذكر، بحديث بسرة: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-قال" من مس ذكره فليتوضأ"، فيقول أصحاب أبي حنيفة، هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وما تعم الحاجة إليه ينبغي أن يكثر ناقلوه ويتواتر، لعموم الحاجة إليه، فإذا لم يتواتر فهو باطل.
5- وقال أصحاب الشافعي وابن حبيب من المالكية: أن المتبا يعين لهما الخيار في إمضاء البيع وفسخه ما داما في المجلس، بقوله – صلى الله عليه وسلم-" المتبا يعين بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار"، أخرجه الشيخان وأحمد بلفظ" ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه:اختر"، وهو عن ابن عمر، وفي رواية"كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار" أخرجها الشيخان وأحمد أيضا .
قال أصحاب أبي حنيفة: هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى، فلا يقبل .
والجواب عند أصحاب مالك وأصحاب الشافعي: أن خبر الواحد عندنا مقبول مطلقا، كما تقرر في أصول الفقه، وإنما لم نقل نحن بالخيار لأن عمل أهل المدينة مقدم على خبر الآحاد- وهذا عند المالكية فقط.
6- قال الشافعية والمالكية: بالتبدية في الأيمان بالمدعين قبل أيمان المدعى عليهم، لحديث سهل بن"أبي خثيمة"، في قصة حويصة ومحيصة، وفيه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال لهم حين أكرت يهود" تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم- أو قاتلكم- والحديث رواه أصحاب الكتب الستة ورواه أحمد، ولفظه" تحلفون وتستحقون قاتلكم- أو صاحبكم-، وفي لفظ رواية الشيخين وأحمد" يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته".
قال أصحاب أبي حنيفة هذا الحديث قد أنكره عمرو بن شعب، وقال: ما هكذا الشأن، وما قال النبي – صلى الله عليه وسلم-:: أحلفوا على ما لا علم لكم به .
قال الشافعية والمالكية: لا يقدح في الحديث مخالفته للقياس، إذا ورد على شرطه، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم-مشرع للأحكام، ولعل ما اعتقده القادح فيه من المخالفة لا تتم، بل لذلك وجه .
7- قال المالكية بوجوب زكاة الحرث إذا بلغ النصاب خمسة أو سق، بحديث النبي – صلى الله عليه وسلم-" فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالنضج نصف العشر إذا بلغ خمسة أو سف"، أخرجه البخاري وأصحاب السنن. وأحمد بلفظ" فيما سقت السماء والعيون، أو كان عشريا العشر، وفيما سقي بالنضج نصف العشر"، من رواية ابن عمر، ولفظ النسائي وأبي داود وابن ماجه"بعلا" بدل"عشريا" والعشري -بفتح أوله وثانيه- هو: الذي يشرب بصروفه من غير سقي، كما ذكره الخطابي. وليس في هذه الروايات"إذا بلغ خمسة أو سق". وأخرج الستة وأحمد عن أبي سعيد" وليس فيما دون الخمسة أو سق صدقة...".
قال الأحناف: إن تلك الزيادة لم تثبت في الحديث، فإن الجماعة الذين رووا هذا الحديث كلهم لم يذكرها، فأوجب ذالك ريبة في راويها.
قال المالكية: أن الزيادة ما لم تقطع الجماعة بعدمها لم تتعارض روايتهم ورواية من زاد، وإنما يمكن القطع إذا التحد المجلس، وكانوا جميعا بحيث لا يغيب عنهم شيء يمكن أن يسمعه غيرهم، وعلى هذا: لا ريبة في الحديث.
8- قال المالكية: بعدم مشروعية جلسة الاستراحة في الصلاة، وذلك بما روي" أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه"، الحديث في سنن أبي داود عن وائل بت حجر، من طريقين، احدهما منقطعة والأخرى مرسلة، ذكره الحافظ المنذري، وأخرج الطبراني في الكبير وصححه عن ابن مسعود أنه كان ينهض على صدور قدميه، كما ذكره النيومي في آثار السنن .
قال أصحاب الشافعي: هذا الحديث يرويه خالد ابن الياس، بإسناده عن أبي هريرة، وخالد متروك عند أهل الحديث.
قال المالكية: احتجاجنا بهذا الحديث لم نرويه من طريق خالد عن أبي هريرة، بل من طريق آخر، فقد رواه الأعمش بأسانيد عن: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم .
9- وقالوا: إن تعين الحديث أن له ذلك الراوي ولم يرو عن غيره لم يصح الاحتجاج به. مثل: ما إذا احتج أصحاب أبي حنيفة على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل من الجنابة، بما روي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-قال" المضمضة والاستنشاق فريضتان في الغسل من الجنابة ثلاثا"، الحديث رواه أحمد عن جبير بن مطعم مرفوعا"أما أنا فآخذ ملء كفي فأصب على رأسي، ثم أفيض بعضه على سائر جسدي" ورجال أحمد رجال الصحيح وله شواهد في الصحيحين .
قال المالكية: هذا الحديث لم يرو إلا من طريق بركة ابن محمد. كذلك قال الدار قطني، قال: وكان يضع الحديث . عند ص 13.
فالواضح أن القول بلا جماع في أي من هذه الأقوال شطط، وحتى الادعاء بأنه قول الجمهور فلتة علمية، فالمسألة بكل بساطة هي مسألة خلاف، والراغب في الترجيح عليه أن يسلك مسلك الأصوليين في ذالك وينضبط بضوابطهم المذكورة في باب التعادل والترجيح.