تكثر الأحاديث مؤخرا حول مشروعية حراك النصرة والمظاهرات المزمع تنظيمها مع استئناف محاكمة المسيئ من جديد، خاصة من مناوئي هذا الحراك والمتربصين به دون أن ننسى بعض المحسوبين على الحراك من الذين قصدوا ركوب الموجة لتحقيق غايات اخرى مستغلين صدق ايمان وعاطفة عامة الناس المحبين لشفيعنا المصطفى عليه الصلاة والسلام.
يتذرع هؤلاء المناوئون للحراك بأن القضاء مستقل ونزيه وأن في المظاهرات ضغط عليه، وأن المظاهرات عمل تخريبي
لا يخلو من انتهاك لحرمات الله وبذلك يساوون بين جماهير النصرة والمسيئ، بالرغم من أن غالبية هؤلاء يتظاهرون خلال محاكمات الساسة والحقوقيين وحتى المفسدين !
ولكي نتمكن من الإجابة على هذه الإنتقادات، لابد من التعرض لمسار الملف، فقد صدر حكم ابتدائي يوم 24 ديسمبر 2014 بالإعدام حدا ضد المسيئ بعد ادانته بتهمتي الإستهزاء والزندقة، وبعد الطعن في الحكم من قبل دفاع المتهم اعادت محكمة الإستئناف تكييف التهمة الى جريمة الردة وحكمت بإعدام المتهم مع النظر في توبته يوم 21 ابريل 2016، وقد اعتمدت كلتا المحكمتين في حكمها على المادة 306 من القانون الجنائي الموريتاني التي تنص في فقرتها الثانية والسادسة على أن:
"كل مسلم ذكرا كان أو أنثى ارتد عن الإسلام صراحة، أو قال أو فعل ما يقتضي أو يتضمن ذلك، أو أنكر ما علم من الدين ضرورة، أو استهزأ بالله أو ملائكته أو كتبه أو أنبيائه يحبس ثلاثة أيام، يستتاب أثناءها، فإن لم يتب حكم عليه بالقتل كفرا وآل ماله إلى بيت مال المسلمين، وإن تاب قبل تنفيذ الحكم عليه رفعت قضيته بواسطة النيابة العامة إلى المحكمة العليا.
وبتحقق هذه الأخيرة من صدق التوبة تقرر بواسطة قرار سقوط الحد عنه وإعادة ماله إليه، وفي جميع الحالات التي يدرأ فيه الحد عن المتهم بالردة يمكن الحكم عليه بالعقوبات التعزيرية المنصوص عليها في الفقرة الأولى من هذه المادة"
"وكل شخص يظهر الإسلام ويسر الكفر يعتبر زنديقا يعاقب بالقتل متى عثر عليه بدون استتابة ولا تقبل توبته إلا إذا أعلنها قبل الاطلاع على زندقته".
وقد طعن أمام المحكمة العليا في الحكم الصادر عن محكمة الإستئناف كل من:
- ذ. محمد يسلم عبد الدائم ممثلا لبعض الأشخاص
- ذ. محمد لمين ولد خيري ممثلا لبعض هيئات المجتمع المدني
- ذ. فاتماتا امباني ممثلة لدفاع المسيئ
- في حين لم تعقب النيابة على الحكم !
وقد صدر حكم المحكمة العليا في 31 يناير 2017 بنقض حكم محكمة الإستئناف وإحالته من جديد الى تشكلة مغايرة لتتلافى ما أخلت به سابقتها.
وفي حيثيات الحكم أن المحكمة رفضت كافة الطعون لكنها أثارت من تلقاء نفسها أوجه الطعن بالنقض، وفي توجيهاتها التي لا تعتبر ملزمة لمحكمة الإستئناف دعت الى نقاش هل السب يقع تحت طائلة الإستهزاء ام لا ؟ فإن كان يقع تحت طائلته فالقضاة أمامهم نص المادة 306، واذا لم يكن :السب" استهزاء ففي هذه الحالة يتحول القضاء الى المادة 449 التي احيل الى مقتضيات الشريعة الإسلامية، كما اوردت مختلف الأقوال في القضية وطالبت بمقارنة مختلف الأدلة الفقهية وبحث امكان تطبيق قاعدة تحقيق المناط بفقه الواقع.
يتضح من ما سبق أن مسار القضية عرف تذبذبا كبيرا من الناحية القضائية، فالنيابة التي طالبت بإعدام المتهم وحركت الدعوى العمومية ضده، قبلت بحكم الإستئناف ولم تعقب عليه مع أنه يمهد لإطلاق سراح المسيء، والأغرب في الأمر أن قضاة الإستئناف كيفوا التهمة نزولا عند طلب دفاع المسيئ ! ولم يتطلب منهم الأمر غير ساعات للنطق بالحكم !
طبعا السياق الذي تمت فيه محاكمة الإستئناف يختلف تماما عن المحاكمتين الأخريين، ففي الأولى كانت المظاهرات تجوب الشوارع في الوطن وفي العالم، فقد احرقت اعلام موريتانيا في بعض البلدان، بينما تم الإستئناف في غفلة من الجميع، حتى محامو الطرف المدني غيب بعضهم عن المحاكمة التي تمت على عجل.
إن النيابة العامة التي تمثل المجتمع –وتمثل السلطات- تمالأت مع خلية نابولي ودفاع المسيئ وقبلت بحكم الإستئناف الجائر، وكان ذلك مجرد تمهيد لتهريب المسيئ الى نابولي حيث تسلمت شقيقته نيابة عنه المواطنة الشرفية وحيث كانت تجمع التبرعات للدفاع عنه مؤازرة من قبل شلة السوء من اصدقائه.
لكن الشعب الموريتاني الذي كشف المؤامرة الدنيئة، خرج في مظاهرات عمت البلاد مطالبا بنقض الحكم الجائر ومنددا بتخلي النيابة عن الملف، وتحت ذلك الضغط استجابت السلطات مكرهة لإرادة الشعب، فرفعت يدها عن قضاة المحكمة العليا ليحكموا بنقض غزل محكمة الإستئناف .
إن تاريخ السلطات الموريتانية مع التدخل في القضاء واستخدامه ضد خصومها، وتعاطيها مع هذه القضية يجعلنا لا نسلم الأمر لها، بل يحتم علينا مواصلة الضغط عليها لتسمح للقضاء بتطبيق العدالة في المسيء.
وفي الأخير نشير الى أن الإساءة ليست قضية موريتانية بحتة بل هي قضية مليار ونصف المليار مسلم، لا يتم ايمان الواحد منهم دون أن يكون رسول الله عليه الصلاة والسلام احب إليه من نفسه وأهله وماله وولده وأن يفديه بنفسه وأهله وماله وولده وعشيرته والكون كله.
إن أي حكم يصدر في حق المسيء يجب أن يأخذ بعين الإعتبار تداعياته على البلاد وعلى سمعتها وأمنها، فلا يأمن الواحد منا أن ينتدب فتية من أقاصي بلاد الإسلام أنفسهم لللإنتقام من البلاد التي افرجت عن المسيء، ويجب علينا جميعا أن ندرك أن العالم الإسلامي لم يرض الإساءة من الدنمارك ولا من فرنسا وأن تداعيات ذلك كانت وخيمة على هذه البلدان، فكيف به يتقبلها من بلد ضعيف كموريتانيا.
من أجل ذلك كله يجب على القضاء أن لا تأخذه رأفة بالمسيء وأن يحكم عليه بالقتل حدا حتى يكون عبرة لمن يعتبر، كما يجب علينا كمسلمين طامعين في شفاعته عليه الصلاة والسلام أن نكثف من الإحتجاجات ضد السلطات حتى يرفع ذلك الحرج عنها في مواجهة القوى الغربية التي تضغط عليها وترفه هي بدورها يدها عن القضاء.