مرة أخرى يتصدر الإعلام المأزوم مشهد الكلام على مائدة قليلة الزاد من الطعام الإعلامي المغذي و إن غصت بخيرة المغذيين من أهل الإعلام مفوهين و محللين و كتبة أصحاب أقلام لامعين، فلم يسمنوا أو يغنوا من جوع الحاضرين رغم الجهود المضنية التي بذلوها و الحصافة التي برهنوا عليها و النية الحسنة التي أبدوها مخلصين.
و من بعد هؤلاء القوم ولج منطقة الكلام خلق المتدخلين من نفس الطينة الإعلامية فلم يجدوا فتاتا يتناولونه و لا مرسى في بحر المحاضرات
يتوقفون عنده طلبا لقسط من الراحة قبل الإبحار إلى جزائر الكلام المباح في أزمة إعلام هي في المبتدأ و المختتم أزمة "إنسان" هذا البلد في قصوره عن فهم الإعلام ذاته و دلالاته في عصر ما زال بلده فيه على الحافة تنقصه لولوجه الخطى الموجهة المطمئنة المتسارعة و الشجاعة الأدبية و النزاهة الفكرية و التواضع الذي هو و على ضرورته القصوى من صميم أخلاقيات المهنة الصحفية.
و لم تخل التجاذبات ـ التي تغلب كالعادة على المتناول و الغير مدرج في عناوين الندوات ـ من التلاسن أو على الأصح التراشق و إن حسنت هذه المرة لغته و قلت حدته و تقلص طيش و حرارة الصراحة الجارحة فيه (المشي اعل الغرظ الذي هو من رواسب علامات القوة في سفر السيبة) إلى حد مكن من التواصل بين أهل كل الخلفيات السياسية و الإجتماعية و الأيديولوجية كما ورد على لسان البعض.
و لما كان من مرامي الندوة القيمة التي نظمها مركز "مبدأ" حول تجربة الإعلام السمعي البصري في موريتانيا و تناول الواقع و استشراف "المآلات" على ضوء حقيقة المشهد السمعي البصري المتعثر، فإنه على خلاف ما بالغ فيه البعض من الرضى عما قدم المحاضرون و قد كان لزجا في بعض محتوياته رغم قوة الحبك و سلاسة السرد، متسما بالتكرار دون قصد أو لضعف اعترى المحاضرين و لكن ربما لعدم تحديد محاور يقتسمها المتناولون بكفاءاتهم المعلومة.
و بالطبع فقد استحوذ موضوع توقيف البث التلفزيوني على معظم اهتمام الحضور استفسارا و استدعاء لمدرك الحلول المرتقبة في سياق "المآلات" كما تركز في المعالجات جل الحديث على الأسباب المالية بحكم الصبغة التجارية للقنوات بعيدا عن ذكر أسباب التراخيص لها على خلفية البحث عن تأصيل الديمقراطية المشتهاة و الظهور بوجه المتقدم في حقل حرية التعبير و الإعلام.
و بالطبع فإن المآلات، و إن رضي البعض عما ورد في سياق تناولها، قد بقيت عند البعض الآخر من جمهور متنوع المشارب و التأويلات دون المنتظر، على الأقل في سياق استنتاج استشرافي من أهل المنصة الذين هم من خيرة الإعلاميين المنتمين للأجيال الثلاثة التي مازالت تجاربها في استمراية التلاقح الحتمي و إن على ضعف و في خضم التوجس من ظهور بعض "صراع الأجيال Conflits des générations" التي تبررها الطموحات المفرطة من ناحية و عقلية ترسيخ الريادية السلبية من ناحية أخرى.
و إذا كان لا بد من ذكر بعض ما حققته الندوة، التي امتدت ردحا من الوقت غيب عنها طول المحاضرات جل الحاضرين بعد صلاة المغرب، فإنها سجلت صراحة إيجابية و عمقا ملحوظا، في مجمل التناول محاضرات و مداخلات، حول واقع إعلام مترهل و دون المستوى المرجو لبلد يشكو تأخرا بالغا عن ركب الأمم في حيزه الإقليمي و القاري رغم الترتيب الذي يظهره متقدما من جملة إعلام عربي تكممه الديكتاتوريات و تحاصره الحروب و تميعه الثورات الفاشلة.