يقال ان التهميش و اتساع الهوة في فوارق الدخل يقودان إلى عدم الاستقرار ..طبعا بسبب عوامل الإحباط والبطالة وانسداد الأفق..الفقر دوما هو سبب البلاء على الأقل في أدبيات الثقافة الغربية ، التي هي ثقافة أغنياء، النظام الاقتصادي العالمي القائم هو المسؤول .. أكثر من مليار إنسان يعيشون الآن تحت خط الفقر (أقل من 1 دولار وعشرين سنتي لليوم).. أكثر من مليار من سكان الكوكب لا يملكون الكهرباء
لكن ليس هذا إلا وجها واحدا لمشكلة النمو المختل ..
الغنى الريعي يقود أيضا الى عدم الاستقرار بمعنى أن العجز المستمر عن الاستيعاب الطبيعي للفوائض الريعية يقود أيضا الى العجز عن التحكم في الإنفاق، وبالتالي إلى الفوضى، وقد عانى القذافي القائد الليبي الراحل من العجز عن الاستيعاب الطبيعي لتدفق المداخيل ..فتسبب فيما تسبب به من عدم استقرار بدعمه لحركات وجبهات كثيرة، وتدخله في الصراعات المختلفة في كل أنحاء العالم من إفريقيا إلى اوربا إلى أسيا وأمريكا اللاتينية "ايرلندا، كامبودجيا، فينزويلا .. وتسببه في مصائب كثيرة ، " طائرة لوكربي ـموت 259 شخص" تفجير افينا ،الخ .. لقد تحرك "القائد" في العالم يمنة ويسرة أحيانا كانت تدفعه في الظاهر المعلن أفكار نبيلة ومواقف شهامة ، ولكن في الواقع الحقيقي كانت رزم المال المتضخمة التي لا تعرف أين تتجه هي الطاقة الدافعة وراء ذلك كله.. وبالدوام كان القذافي يخلف وراءه في كل مرة كارثة إنسانية ، يتحتم عليه لاحقا مزيدا من الإنفاق لإصلاحها.
ليس الفقر إذن هو وحده المشكلة ، فالغنى أيضا قد يتحول إلى مشكلة.
كثير من الدول الغنية اليوم تعاني من المشاكل ، لكن اغلب هذه الدول تملك مقارباتها الثابتة للتحكم في فوائضها وتوجيهها بدل أن يحدث العكس ، أي بدل أن تتحكم هذه الفوائض في مصيرها هي .
قدمت النرويج مليار دولار للبرازيل لحماية غابات الأمازون، من الذي سيتضرر من هذا الإنفاق؟ ، لا أحد، فغابة الأمازون هي تقريبا بمثابة رئة الأرض التي تتنفس بها، طبعا إلى جانب غابات أحواض الكونكو و ارخبيل اندنوسيا . لم نسمع أن أحدا تضرر من هذا الإنفاق، مع ان المبلغ مقارنة بالناتج المحلي هو أقل من 0.2 المهم أن هذا الإنفاق لم يتسبب في قتل أي أحد أو إغضاب أي أحد..
لقد تخلصت النرويج – بمنطق ما – من بعض المال بطريقة سلمية ، وسليمة أيضا ربما..
دول الخليج في الغالب كانت دولا مانحة وليست متدخلة، و ما كان يسميه القذافي دعم القضايا العادلة كان يوصف في الخليج بالتهور ونشر الفوضى، وقد جاء اليوم الذي أصبحت فيه دول خليجية متهمة بنفس ما كانت هي نفسها تتهم به القذافي تقريبا، أي التهور ، وقد تحسر سيف الإسلام على أنه لم يؤسس قناة تلفزيونية مثل الجزيرة و العربية ..فالفروق في نظره هي أشبه بالمساحيق.
طبعا مازالت الكويت دولة خليجية مانحة غير متدخلة، عاقلة وهي أقوى من الإمارات وأقل من السعودية من حيث المنح الإنسانية ، و مقارنة بالناتج المحلي فهي الأعلى منحا في العالم تليها في الترتيب السويد ، وتأتي الإمارات في الرتبة السادسة والسعودية ثامنا وقطر أربعة عشر(البنك الدولي2015 )
ولكن..هل المال يقود دوما إلى التهور ؟ الجواب لا طبعا ، إلا إذا كان مشروع مارشال الذي مولته الولايات المتحدة بأموال تفوق الحصر لدعم اقتصاد أوربا المنهكة بسبب الحرب العالمية الثانية هو مشروع متهور..ثم انظروا إلى ما تقوم به الصين الآن حين شعرت بثرائها الفاحش.. بدأت مشروعها المعروف : الحزام والطريق ،حيث شرعت فعلا، ببناء الطرق والسكك والكابلات وما يرافق ذلك من تجهيزات ، ليس في الصين ، بل في بلدان متعددة ومترامية من أجل ربط هذه البلدان بها تجاريا وتنمويا. إنها واحدة من أكبر عمليات الإنفاق في التاريخ، انه مشروع مارشال آخر، ولكن للعالم كله..
المال يقود إلى التهور حين يضل الإنفاق السديد طريقه ..وهذا ما عشناه ، أما الآن، فإن على دول الخليج العربي أن تفكر في مارشال عربي ، على الأقل من أجلها هي، كي لا ترتد سهام المال إلى النحور ..فهذا النوع من الإنفاق يقوي الاعتزاز بالوطن، ويخلق الفرص،ويفتح الآفاق ، وهو إلى جانب ذلك أيضا ينعش الاقتصاد ويرفع المداخيل ..قالها "كاينز" ، وقالها القرآن