هي الندوة العلمية بطاقم مغاربي رفيع المستوى من الأساتذة و الباحثين التي بدأت فعالياتها أمس الخميس و تدوم يومين داخل صالة مؤتمرات أحد فنادق العاصمة حول موضوع قديم في المقصد مبتكر في العنوان "التصوف الإسلامي و فلسفة التسامح" الذي يراد له التناول الجديد رغم غياب الانفتاح و المراجعة البناءة إلى جانب انعدام الشجاعة الفكرية. فهل الندوة سعي غرضي إلى إرضاء غرور نخبة لا تسعفها الأوضاع الثقافية
السائدة في ميوعتها و ضعفها و غياب أطر احتضانها و تبنيها و استثمارها؟ أم أنها تشكل فقط ترفا فكريا دون العلمية فيه فعُقدت داخل فندق فاخر بعيدا عن الحاضنات الجامعية و المنابر الفكرية، و فُتحت محتوياتها على مصراعيها أمام جمهور عريض اختلط فيه الجامعي و الأكاديمي و الباحث مع الفضولي و المجامل و الملبي للدعوة التي وجهت إليه حتى تقلص الوقت أمام المحاضرين فلم يشبعوا مواضيعهم درسا و تقديما رغم قيمتها العالية و خَلطت من بعدهم مداخلاتُ الجمهور المستقاة بعضها من انحياز إلى التعصب أكثر من الانفتاح على عميق المستخلص و تائه الكلام في موضوع جمع بين المفهوم الفلسفي و لغة التصوف الممتنعة؟ و هل هي في الأخير دون الإثنين شكلت كسرا مفتعلا في وقنه لجمود الساحة و فرضا إيجابيا على تناول مواضيع و إن حملت علامات التكرار فإنها ذات ارتباط وثيق بانفعالات الحاضر و هواجس المستقبل؟
و لا شك أن الندوة التي أنعش فصولها كوكبة من الأساتذة الكرام منهم لا حصرا الدكاترة عبد الودود عبد الله الهاشم و البكاي ولد عبد المالك و سيدي لمين أحمد بناصر شهدت صولات في الموضوع راقية و علمية تنويرية بامتياز للدكاتزرين أحمد كازي و محمد امعارش من المغرب و الدكتور عبد الحق الزموري من تونس. و لما بدت المحاضرات الموريتانية في مجملها على قوة حبكها و جزالة لغتها و رصانة التناول تعاني كلاسيكية المنهج و محاضرة محتوياتها من شبح التخوف أو التهيب من الوقوع في شراك محاذير الرمي بالزندقة و شبه التكفير من لدن بعض أصحاب عقلية عصية على التغير ما زالت تسيطر عليها ارتودكسية الجمود و إلغاء سوى أهلها، فإن محاضرات الإخوة من الدول المغاربية كشفت الغطاء عن مستوى عال من التحرر الفكري الذي تجلى من حيث التناول في الانفتاح على التجارب العالمية و عقلانية انتقاد المتصوفة في بعض جوانب ممارساتهم و تعثرات فكرهم قولا نظريا و ممارسة عملية مع الحفاظ لهم على سمو المقصد و الإخلاص في العمل لبلوغه و الاقتداء بهم شموعا تنير الدروب في دياجير التعقيدات النفسية للإنسان المعاصر و قد تكاثرت عليه ظباء الفكر المتحرر و التنوير ـ الذي حمل كل بذوره و ثماره ـ فما يدري ما يصيب و اختلطت من حوله المفاهيم و تشابكت سبل الوصول إلى الحقيقة المطلقة و بناء روح التسامح المنشودة.
وما جزالة لغة محاضراتهم التي طلقت في مجملها التكلفَ و التقعر و الارتباط المضني بالمفاهيم القديمة حرفيا و استدلاليا إلا برهانا أخر على أصالة التقدم منذ أمد في صقل و تطوير مناهج التناول و أساليب الطرح و على غياب جميع أنواع عقد النقص و القصور و الاجتزاء و المحاكاة و كذلك الانتصار على الجمود و النجاح في الالتحام بالتجارب الإنسانية فهما و أخذا بالتقاطعات الحاصلة معها منذ كان الإنسان يبحث على التنوير الداخلي و السمو إلى معرفة الخالق و تجليات جماله في كونه الفسيح البديع. تحرر قوى على التحجر و الارتكاس و الجمود الفكري و على تخلف لغة الأداء بدا من اتزان هذه المحاضرات و توازن الطرح المقارن فيها بين التجارب الإنسانية سواء تعلق الأمر:
· بالتصوف في جانب التأمل منه و البحث عن الجمال المطلق فيه و اسكناه مكامن التسامح الذي هو عند الآخر بهذا الاسم و في الإسلام من القرءان بأسماء أقوى دلالة و اشد نصاعة و في الأدب العربي لتجليات عظيمة في سموها و وضوح مقصدها في دائرة احترام الإنسان،
· أو بجانب فلسفة التسامح مبحثا نابضا بالحيوية في التجارب الإنسانية و حاضرا بكثافة في قالب التصوف الإسلامي و إن ورد بتسميات أخرى أعمق و أقوى دلالة في القرءان و السنة و حمله الأدب العربي بلغته السامية في فروسيتها و بنائها النفس المؤصلة على نبيل القيم و فاضل الأخلاق؛ في كلا الوجهين حملت هذه المحاضرات وجها متحررا دون الضرب عرض الحائط بمفروض الالتزام وجب الأخذ به و اتباع مقاصده الغير محصورة في زمن لا تتحرك شمسه و قمره و أجرامه و حيز فكري جامد لا تتمدد أرجاه إلى كل الآفاق لتقتبس من كل الأنوار و تبث من إشراقاتها المتوهجة.