إلا تنصروه فقد نصره الله... / محمد عبد الله ولد البصيري

لم يصوروك يا نبي الرحمة صلى الله عليك وسلم.. لم يصفوا بارقة من قسمات وجهك المشرق.. ولا قبسا من مشكاة نورك الساطع.. وعدالة حكمك الناصع... لم يصوروك ولم  يرسموك.. إنما رسموا رؤوس الشياطين التي تقَنّع سوءات وجوههم .. وصوروا البغضاء بدت من عورات أفواههم.. يستنسخون صورا شمسية

 مما تخفي قلوبهم من حقد قديم .. نبتت جذوره في مواجع التاريخ تعصبا لمذاهب ران على أنقاضها صدأ الزمن في أقبية خيبر.. وسراديب المدائن.. ولفها ضباب السنين في غور ذاكرة تبوك.. وثنايا هزائم اليرموك.. وخبايا مواجع عين جالوت.. 
لم يرسموك ولم يصوروك.. يا نور الهدى وطلعة الحق ومعدن العرفان .. لأن نور وجهك الأسطع طمس معالم الكاريكاتير وكل عدسات التصوير.. ومقالات كل فاقدي الضمير... لأن برق الحق من طلعتك النيرة أظلم ومضات الكيد في استديوهات قريظة.. وسود صفحات الضغينة في كل قاعات تحرير الصليب..
لم يصوروك يا من تاهت في أرجاء مديحه أحرف المبدعين .. وضاق مجرى الكلمة عن الإحاطة بصفاء معدنه الثمين.. يا من غرقت عيون القصائد في دموع الوهن عن بلوغ كنه صفاته الوكية.. واعتذرت صور البلاغة عن كشف أسرار  العظمة في خفايا سيرته البهية.. ورفعت الأقلام رايات بيضاء على ضفاف العجز عن وصف الألق المعطر في ثنايا خصاله ...
لم يصوروك يا دعوة خليل الله إبراهيم.. وبشارة نبي الله عيسى.. ومطلب كليم الله موسى، صلى الله عليك وعليهم أجمعين.. بل صوروا بالموجات تحت الصوتية صدأ قلوبهم المنكرة .. وأراجيف نفوسهم الحاقدة.. واسقطوا القناع عن بصمة جحود الحق بعد ظهوره.. وإنهم ليعرفون ما يغيظ ريشة الباطل من عظيم خلقك .. ويدركون ما تعشو عنه وأقلام البهتان وعدسات عمى الألوان من ملامح عظيم فضلك .. ونقاء عدلك...
لم يرسموك يا نبي الرحمة  وشفيع الأمة.. لم يرسموك يا بدر الألق على طلعة وجهك البهية .. إنما رسموا سطور عجزنا .. ولوحة ضعفنا معشر المسلمين، وخطوط هواننا في هذا الزمان.. لم يصوروك يا نور اليقين.. وسيد الأولين والآخرين.. إنما صوروا ألوان ضعف الإيمان في عالم إسلامي هزلت كُلا العلم والمجتمع والدول حتى سامه كل مفلس...
إنْ رسموا على صفحات الغيرة ما تعكسه مرايا الضلال .. وما يسْطُرون ولا يسترون من عورات لاوعي الجحود..  إن صوروا ما في نفوسهم من أوجاع ثاني أوكسيد الغلِّ وثلاثي كبريت البهتان.. فقد صورك الخالق الُمصوِّر في أروع لوحة إلهية، تٌعجز كل مبدع وتبهر كل فنان.. لقد نوّر بديع السماوات والأرض ملامح شخصيتك الفريدة بأزهى أنوار الرسالة .. وأروع ألوان النبوءة .. في لوحة الحق الأبدية .. نُسِجت خطوطها بالقرآن، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه : ﴿ ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم *﴾ صدق الله العظيم..
إن القلمَ الآثم الذي سطر مقال الإفك ورسوم والبهتان، والفِلْم الظالم الذي أخرج شطْء الكراهية والإساءة للأديان.. إنما صوروا الوجه الحقيقي لفـــتّـــان.. لا فنّــان، يعبد أوثان حرية التعبير.. تقربا لثلة من "لوبيات" الظلم متمنعة في متارس "نابولي" وحصون بني النضير وقلاع خليج الخنازير.. غير آبه بنبضات الحب في مليار قلبِ مسلم..
عجبت لحفَظَة تمثال الحرية، حرية التعبير، تُرفَع أقلامهم ذُعرًا .. لو غير يراع السهْوِ، في زاوية الكاريكاتور، ضِلعا واحدا من أضلاع نجمة داوود .. لكنها تستبيح عرض من نُصر بالرعب مسيرة  شهر .. وتصفع مليار خد مسلم في كل أصقاع العالم .. 
وعجبت لأشباه لكتاب والصحف المُعْسرة، تنشر على أولى صفحات التفاهة، أبرزَ عناوين الفجور، بخطوط الطمع العريض .. وألوان الكذب البغيض .. ثم تتمزق أسًى لو انحرف خطها التحريري لحظة عن اتجاه قبلة "وول استريت"، أو منارة الفاتيكان أو معابد سدنة الأورو والدولار.. 
فليس من حرية التعبير ولا من روائع فن الكاريكاتير.. وضع حزام ناسف تحت معطف تمثال "الحرية".. ذلك انتحار للفن والإبداع ..! وإعدام للثقافة والفكر..! في محاكم "نورمبرك" ومحكمة الغدر الدولية... لكن يجوز في قوانين الإعلام الغربي التندر بالنيل من أقدس مقدسات الإسلام
ثم يُرفعُ شعار حرية التعبير.. على أنقاض كل مؤسسة إعلامية حاولت أن تأخذ مقاس الحزن على صدر أمة الإسلام وأكبادها تتفطر جراء محاولة النيل من عرض نبيها الكريم .. لأن سَدَنةُ تمثال "الحرية" ، حرية التعبير.. يريدون من وسائل الإعلام الحرة أن تغَطي وجه الحقيقة، وأن لا تبصر من فواجع الإبادة الجماعية للمسلمين في بورما إلا قصاصات خلّفها مقص الزعيمة "أون سان سو تشي" الحاصلة على جائزة نوبل للسلام ... ولا من فواجع إسرائييل سوى أحدث منتجات "الفتوشوب" في مخابر النجم السداسي .. ولا من أعاصير وسط إفريقيا سوى مشاهد انتقتها أحدث كاميرات مقاتلات "الجكوار" الفرنسية .. 
ليس من حرية التعبير، وفق تعريفها الجديد في الطبعة الأخيرة من معجم "ماكيافيل"، أن يصور الإعلام الحر دعاة الحرية يُربُون في بنوك الحقد مضاربةً بأعراض الأنبياء ويذرُّون رماد الذعر في عيون مها الرصافة وبمينمار ..  ويضفون جرعة من مادة الاستشهاد إلى تركيب حليب أطفال كربلاء و"بانكي"...
أذعنَ الجميع.. احتراما لمشاعر محتكري تخصيب ذرات اليورانيوم.. خضعوا دون استثناء لحفنة من النفاثات في عقد الخوف وثلة من تجار نخاسة الشعوب، .. تبيع دماء الأبرياء بمزاد الفكر الرأسماليي..  كل الإذاعات غيرت بثها على ذبذبات الحرية.. وكل التلفزيونات قطعت برامجها على أمواج الحقيقة .. وجميع عدسات التصوير غضت الطرف عن مشاهد الإبادة الجماعية ومسلسلات الجرائم الإنسانية..
وظل شعار الحرية، حرية التعبير وحرية الصحافة، حقا مصونا، وشعارا مرفوعا على جبين تمثال الحرية، ما لم تقدح شرارة حق في حقول النفط العربي .. على شاشة  المصالح الاقتصادية الغربية.. أو يدخل مُذنَّبُ رفضٍ من المجرة العربية إلى مدار نجمة داوود..   ولا أحد اليوم يخشى الغرق في بحر يحيط بجميع القارات، بعمق أربعة عشر قرنا من مد الحضارة..! ومساحة مليار ونصف مسلم.. فهل جاء عصر الغثاء ..غثاء السيل؟ 
لم تعد حكومة في الغرب ترهب مخاطر الإبحار في لجة الإساءة إلى مشاعر دافعي ضرائب التخلف في دار الإسلام.. ولا شعب في الغرب يخاف الحرمان من دفء الذهب العربي الأسود في شتاء العلاقات الدولية .. ولا منتج في الغرب  يخشى انحسار الطلب في ضمير سوق عكاظ .. لأن أزيد من مليار مسلم مجرد مستهلكين لمنتجات هوليوود.. يطعمون خيولهم أشهى وجبات "الهنبوركر" ويشترون لأطفالهم ألعاب "ديزْني".. 
آه !  يا "كريستوف كلومبوس".. لو لم تركب مخاطر اللجة .. ولو لم ترْمِ بك المقادير إلى "خليج الخنازير"..!
لقد ضاق صدر حرية التعبير بأسرار فتاوى "داروين".. لا بقاء عندهم لغير الأصلح  تكنلوجيا.. ولا رحمة لغير الأركع إيديولوجيا.. ومليارا مسلم من وزن الريشة يقرضون الشعر ويتنابزون بالألقاب... لا يملكون حولا ولا قوة للدفاع عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.. خارت أجنحة المَحبّة وخشعت أصوات المستشفعين.. جفت الأقلام من زبد الغضب .. وطويت الصحف وراء ظهر التاريخ الإسلامي المعاصر..
لا عبرة بالعدد حين ينثنى حد السيف اليماني تحت أشعة الليزر.. وتركع باسقات النخيل أمام متسلقات أغصان الكروم.. ولا أمل في المدد حين يرتدي الهوان دروع الأعذار.. وتباع ذمة العلياء بالمزاد عبر الأنترنت.. ويعتكف الحل والعقد في صومعة "الفيتو".. ويبعث الشيطان برقيات التهنئة إلى كل عميل  مرتد.. 
لقد هزلت طريدة المشاعر العربية وهان حِمى المقدسات في دار الإسلام.. فعش آمنا يا سلمان "بلا رشد" فإن سلمان الفارسي معتكف في محراب التاريخ.. ونقري ما شئت يا تسليمة نسرين.. فإن نسيبة بنت كعب محتجبة في مخدع الزمن.  وعثوا فسادا وأحقادا يا أحلاف أبي لهب وأذناب ابن أبي معيط .. فإن أصحاب الفاروق وسيد الشهداء عند ربهم يرزقون...
بلغ السيل الزبى في عصر الغثاء، غثاء السيل ... حتى أشعل الاستهزاء بخير الخلق، صلى الله عليه وسلم، كل مدى... لقد بلغ النيل من أعراضنا، لا من عرضه الشريف، كل مبلغ.. أو ما يرجو كل منا أن يكون، صلى الله عليه وسلم، أحب إليه من نفسه؟ كثُر المستهزئون ونحن نشرب كؤوس التخلف.. ونسهر في أرقى ملاهي التزلف .. قمصاننا قُدَّتْ من قُبُل.. وقلوبنا مغلولة بصدإ الخطيئة .. أطفالنا يلعبون بدمى البابا "نُويلْ" .. وسيوفنا مرهونة للبنك الدولي .. وخيولنا تشرب الكوكاكولا وتعلف الجبن الدنمركي.. 
آهِ..! لو سار بنا العم سام إلى.. برك الغماد وما تخلف منا رجل واحد !  كثر المستهزئون ونحن صُبُرٌ في نصرة الباطل، ما رجحه دليل الأمم المتحدة.. صُدُقٌ في الدفاع عن حقوق الإنسان ما لم يك نبيئا مرسلا..   كثرَ المستهزئون في عصر الغثاء.. غثاء السيل.. ونحن نرفل في حرير التزلف، ونرقص على إيقاع التخلف.. نغني قصائد فخر.. تمجد الماضي  تزييفا للوعي .. وتعويضا للعجز ...
ما ذا لو كان التطاولُ والاعتداء على شرف "مادونا" .. أو عِرض تمثال الحرية.. أو حصانة حاجب "الكنيست"  ... إذا لاعتقلنا حذاء "منتظر الزيدي" ، وحكما بالإعدام على حجارة أطفال الانتفاضة ..  ولأقمنا الدنيا كلها لعزف نشيد التبعية .. وأداء  التحية العسكرية ورفع لواء الاستسلام..  ولأعددنا كل ما أوتينا من رباط الولاء وألوية الوفاء ذودا عن بيضة حرية التعبير.. وحدود مملكة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان..
أمَا وقد كان الأذى للنيل من أعراضنا لا من عرضه الشريف صلى الله عليه وسلم، فنحن صُبرٌ عن زلات أذيال العم سام..   نركن إلى من ظلم وننتظر طيرا أبابيل.. نخطب ود من حادّ الله ورسوله ونرتقب صواريخ النجدة على جناح جبريل ... تهب علينا من الغرب رياح حرية التعبير فتشل منا كل يد ولسان.. أما القلب .. فذلك أضعف الإيمان...  
لا وجود لأي رد فعل إسلامي رسمي على شطحات آباء لهب القرن الواحد والعشرين.. لم يصدر بيان تفجع حكومي.. لم تنكس أعلام الحزن في سماء العلاقات الدولية.. لم تدمع عين محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على منابر الأمم المتحدة.. لم تقف البرلمانات الإسلامية دقيقة صلاة على الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.. لم نغلق أي قناة للملاحة العالمية ولا أي معبر استراتيجي.. سوى معبر رفح.. لم تقطع مؤسساتنا الإعلامية برامجها تعظيما للخطب.. حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة لحرية التعبير، وللتعبير بشكل حضاري.. مسيرات عاثرة، ومقاطعات عابرة لمنتجات وافرة.. ! سحابة صيف سرعان  ما تنقشع وينتهي كل شيء..!
غنينا زمانا عن نصرة إخوتنا في كل مكان من دار الإسلام.  فهل نحن أغنياء عن نصرتنا لله عز وجل ولرسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم ؟  إن الله عز وجل لغني عن نصرتنا إياه. فلله الأمر من قبل ومن بعد.. وهو القوي العزيز..  وإن الرسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم، لغني عن نصرتنا له.. فقد نصره الرحمن وعصمه.
لكنا، معشر المسلمين، لسنا أغنياء عن نصرتنا لله ولرسوله. فإن حِدْنا لم نظفر بالمطلوب ولم نحقق مناط الوجود، وما نقص ذلك من عزة الله جل جلاله ولا من نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا. معشر المسلمين "إلا تنصروه فقد نصره الله" وإلا تدافعوا عنه ف"إن الله يدافع عن الذين آمنوا"...
خسئت أقلام أشباه الكتاب والرسامين.. وخابت مطامع المستهزئين.. لقد ثبّت الرحمن في أم الكتاب فضل خير الخلق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، ورسم بالقلم الأسمى عظمة أخلاقه وإفك مناوئيه ﴿ ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم *﴾ صدق الله العظيم.
نشرت هذا المقال منذ سنوات في جريدة الشعب واليوم أعيد نشره بتصرف يسير  لما يقتضيه الظرف الزمني  وطنيا وعالميا.
  

12. نوفمبر 2017 - 6:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا