الشمس مؤذنة بالأفول والغيوم متلبدة في السماء وبطن الوادي مظلم وأشجار الغضى تتمايل أغصانها ونسيم جنوبي عليل يعبث بتلك الأقحوانات المترامية على جانب الوادي. وعلى الجانب الآخر من وادي عبقر جماعة من الشعراء منهم بنو الشيصبان ورهط من قبائل الجن المختلفة يديرون بينهم الحديث عن الشعر والشعراء ويُطاف عليهم بين الفينة والأخرى بكاسات من خمر بيسان والأندرين وبينماهم على هذه الحال الرائقة والمجالس الرائعة إذ طلع عليهم وفد من الشعراء الفرسان
لا يعرفون منهم أحدا...حيوْهم وحادثوهم ساعة ثم سألوهم عن وجهتهم فقالوا: خرجنا آمين هذا الوادي لأن لنا بمن فيه حاجةً لن تقضى إلا على أديمه...وبعد صمت غير طويل تكلم شيخ شيصباني طاعن في السن فقال مخاطبا قومه: إني معرفكم بهؤلاء الشعراء فهم أهل الشعر منا معشر الشياطين أما هذا (وأشار بيده إلى فارس ملثم) فحسين الدنان وهذا عتاب بن حبناء أما الثالث فحارثة بن المفلس وهم أشعر شعراء وادي الأرواح وقد جاء بهم ما جمعكم هنا من الغيرة على الشعر، وقد آن لنا ولهم أن نبدأ الحديث حتى نقضيَ وطرنا وننهيَ شأننا... رحب أصحاب المجلس بالشعراء واحتفوا بهم غاية الاحتفاء وأفسحوا لهم في المجلس وجعلوا لهم الصدر فيه وبالغوا في إظهار الاحترام والتقدير وآيات التبجيل.
وقف حسين الدنان وشكر الحاضرين من بني الشيصبان وقال لا يحق لنا أن نلج الموضوع ونأخذ في الحديث عنه، وشعراؤنا وسادتنا غير حاضرين فليناد مناد في رمال زرود فإن بها منا أقواما ما نحن بأغير منهم على الشعر والشعراء ولو علموا بأمرنا ما تخلف عنا منهم رجل واحد، فقالوا صدقت يا حسين وما هي إلا لحظة حتى كان المجلس عامرا برجال لم يكونوا فيه قبل لمح البصر...قال عتاب: الآن طاب تجاذب الكلام ولذ تعاطي المدام ... ثم قال هاكم أسماءَ هؤلاء الشعراء؛ إنهم لافظ بن لاحظ، وهبيد بن الصلادم وعنتر بن العجلان وهاذر بن ماهر ومدرك بن واغم...
أُديرت الكؤوس على القوم مترعة من الصفراء المعتقة فشرب الجميع وانتشى عنترة وقال تالله لولا الخمرة ما أقمت بهذه الأرض، فقال له فتى يُسمع صوته ولا يُرى شخصه؛ ألست القائل يا عنترة:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى==وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سـبقى العاذلات بشربة==كميت متى ماتعل بالـماء تزبد
فقال بلى ـ لا أم لك ـ أنا من قال ذلك وهذا أوان إنشاده.
طِيف بالكأس مرات عديدة على حسين الدنان ولكنه كان يستعفي كل مرة ويرد على النادل بالإشارة فقط وقد لاحظ الشيخ الشيصباني ذلك فقال له مالك يا حسين تستعفي عن الصهباء ألم تعد نديما لوالبة بن الحباب فقال بلى أنا كذلك ولكني لا أشرب من الخمرة إلا البابلية فهي أعتقها وأرقها وقد علم الناس عني ذلك فما زالت تقدم لي في كل مجلسِ أنس حتى ألفتها ولم يعد غيرها يستهويني ...قال الشيخ دونَك هذا الكأسَ فقد جيء به الساعة من بابل لكم خصيصا فقد علمت أنك القائل:
ولكن سبتني البابلية إنها==لمثليَ في طول الزمان سلوب
قال هبيد بن الصلادم أيها الناس قد علمتم أن لافظا أشعر الجن وأن صاحبه امرأ القيس أشعر الإنس فاجعلوه المتحدث باسمكم والقائم بأمركم فإن منتهى القول إليه مع ما له من رجاحة عقل وفصاحة لسان وشجاعة قلب، لذا فإني أرى أن تجعلوه رسولكم إلى جزيرة العرب يجوب فيافيَها وقفارها ويطوف بواديَها وحواضرها فإن شعر العرب رهين بجزيرتهم وما عداها من بلادهم لا حظ لأصحابه في الشعر..
بارك الجميع رأي هبيد ووافقوه فوقف لاحظ وقال لقد قلت يا هبيد فأحسنت وإني قبل أن أعلق على ما قلت سائلُك سؤالا لا بد لي من جوابه فأفتني فيه وبين لي صحيح أمره من سقيمه فقال هات يا شيخنا وسيدنا لا مواربة ولا مخادعة فاليوم يوم يصدق فيه هبيد. قال نحن يا هبيد جميعا نعلم أنك صاحب عبيد وشيطانه وقرينه العتيد وما كان ليصل إلى ما هو عليه في قومه لولاك ولكن هل أنت من نفث في مخيلته قصيدته المشهورة:
أقفر من أهله ملحوب==فالقطبيات فالذنوب؟
أيعقل أن تكون هذه القصيدة غير الموزونة من شعرك وأنت من أنت فقال هبيد أما إنك لو سألتني في غير هذا المقام ما صدقتك ولكن الحق لزام علي هذه العشية...لقد غاضبتُ عبيدا في بعض أيامي فظن أنه قادر على قول الشعر دوني وحاول قرضه إبان تلك الأيام فكان أن قال تلك المعلقة التي طارت في الآفاق وما هي من الشعر فتروى ولا من النثر فتترك وقد علم بعد ذلك أنه إلي أحوج مني إليه فاسترضاني فرضيت.
قال لافظ بعد أن أزال عنه جواب هبيد هما كان عليه ثقيلا: أما وقد اخترتموني سفيرا لكم وناطقا باسمكم ومدافعا عن مآثركم وتاريخكم ومجدكم فإني سأخلص لكم العمل وأمحضكم النصح.
أغذ لافظ السير في أطراف الجزيرة العربية ومضى يجوب التلال والهضاب والشعاب والوهاد..
اقترح مدرك بن واغم على الشعراء أن يتحدث كل واحد منهم عن صحابه من الإنس فقال عنترة بن العجلان لقد أسفت كثيرا على موت ذلك الفتى الشاعر طرفة بن العبد وما زلت مذ علمت بنعيه أبكي وأدعو بالويل والثبور مدة 15قرنا من الزمن حتى سمعت أن بأرض تونس فتى يافعا يدعى أبا القاسم الشابي يحاول قول الشعر فزرته ورأيت ملامح النبوغ واضحة على محياه ونار الثورة تأجج في صدره فباركته ونفثت في خلده؛ أن أبشر واطمئن فإني سأكون لك صاحبا ورئيا ولم أزل شيطانه وباعثه على قول الشعر حتى ذاع صيته وعم البلادَ شعره، وما فعلت معه ما فعلت إلا لأني رأيت فيه شخص طرفة فهو فتى ضعيف مستضعف وحيد ثائر على المجتمع كما كان طرفة قبله. وقد جئته ذات غداة باردة فألهمته الثورة في قصيدته المشهورة:
إذا الشعب يوما أراد الحياة== فلا بد أن يستجيب القدر.
وقال حارثة بن المفلس أما أنا فقد كنت في رغد من العيش وإقبال من الدنيا ومأمن من صروف الدهر مع صاحبي أبي الطيب المتنبي حتى وافاه أجله وتنكر له دهره وقتله لسانه فآليت بعدها أن لا أكلم أحدا من الناس واعتزلت الشعر والشعراء وانتحيت من الأرض ركنا قصيا لا أسمع فيه شيئا عن الإنس والجن. وقد بقيت على هذا الحال ردحا من الزمن، وذات ليلة من ليالي تشرين خرجت أستنشق أريج الياسمين بدمشق فلقيت فتى لم يتجاوز عمره 16عاما يشرف على وادي عبقر من مكانه ذلك فآنست به وحادثته ساعة وعلمت أني ما أُخرجت تلك الليلة من مخبئي ذلك إلا لأمر عظيم فسألت ذلك الفتى عن اسمه فقال نزار قباني فعرضت عليه أن أكون شيطانه وأخبرته أني كنت صاحب المتنبي فقال لي: لا حاجة لي في شيطان؛ لأني شيطان نفسي وشعري لا أكله لغيري فأعجبتني نرجسيته واعتداده بنفسه وهو إذ ذاك غلام صغير فقلت ويحك ألمثلي يقال هذا الكلام! أما علمت أني من أسدى إلى المتنبي ذلك المعروف الأبدي حين وهبته تلك السموط الحسان التي مدح بها سيف الدولة...ولم يزل الكلام بيني وإياه أخذا وردا حتى قبل أن أكون صاحبه واعتذر عما بدر منه فكنت قرينه وبي استطاع أن يكتب اسمه بين شعراء التاريخ.
وحين أراد هاذر بن ماهر أن يحدثهم عن نفسه داهمهم لاحظ قادما من مهمته.
كان مجيء لاحظ قبيل انبلاج الفجر حيث أقبل وقد جمع من الأخبار ما لا يخطر على بال وهو البصير بالشعر الخبير بالشعراء ...
تنادى الجميع وحضر كل جني وشيطان حتى المردة والعتاة منهم.
وقف لاحظ بن لافظ في الجن متكلما وخطيبا وقال: لقد طوَّفت هذه الليلة كل بقاع الأرض حاشا مكة والمدينة وتتبعت أخبار الشعر في جزيرة العرب فوجدت أمره سيئا يسر العدو ويغيظ الصديق ليس في الجزيرة من الشعراء إلا النزر القليل وقد غلبت عليهم أمور كثيرة فلم تعد لهم ذائقة ولا بصيرة بالشعر والأدب، وقد أقاموا للأدب نظريات تحجره وتقزمه وتأثروا ببعض العلوم الأخرى فأرادوا أن يجعلوا الأدب مثلها. وقد بلغني أنهم يريدون أن يجعلوا الأدب علما وبئس ، والله ، ما يريدون..وقد علمت أيضا فيما علمت من أخبار أنهم أقاموا مسابقة شعرية أسموها "أمير الشعراء" يجتمع إليها شعراء العرب من كافة أصقاع الوطن العربي وقد اختبرت هذه المسابقة وقومتها وسأخبركم عن حكمي عليها وموقفي منها قبل أن ينفض مجلسنا الليلة...قال عتاب بن حبناء أليس في جعبتك خبر حسن عن الشعر والشعراء لقد أثقلت علينا بما جئتنا به من خبر فقال بلى؛ فلدي خبر يثلج الفؤاد ..لقد وطئت أرض المغرب الأقصى فجئت بلاد شنقيط وتقصيت أخبار الشعر هناك فوجدت الشعر في أحسن حال وأهله في أطيب دار وخير مقام وأرضه تشبه تمام الشبه وادي عبقر ووادي الأرواح وبلاد زرود فقال هاذر أرى أن نرحل منذ الغد إلى تلك البلاد الشعراء أهلها فنقيم بين ظهرانيهم فلم تعد هذه الأرض لنا بأرض مكوث فقال حسين الدنان ولم الانتظار حتى الصباح أرى أن نقضيَ بقية ليلتنا هذه هناك ولنحتمل الساعة إلى تلك الأرض الشعرية..
ولم تطلع شمس ذلك اليوم حتى نزل أهل وادي عبقر شمال البلاد ونزل أهل زرود الجنوب الغربي من بلاد شنقيط وحل قاطنو وادي الأرواح سابقا أرض الشرق فاستوى العطاء الشعري الشنقيطي على أشده منذ ذلك الأمد وازدادت الأرض شعرا وأدبا وتأوب لافظ بن لاحظ محمد ولد الطلبه وهبيد بن الصلادم محمد ول محمدي وهاذر بن ماهر محمد ول احمد يوره ومدرك بن واغم محمدي ول أحمد فال ...