أخيرا سالت الدماء مدرارة ضد الاستبداد في دولة عربية، في أول ثورة شعبية في منطقتنا المكلومة بحكامنا المستبدين، بعد ثورة السودانيين على الجنرال عبود والمشير النميري. لقد برهن الشعب التونسي على شجاعة لا ترهب الموت، وعلى استعداد للتضحية قل نظيره.
وقد كانت ثورة شعبية مجيدة حقا التحم فيها الشعب بكافة أطيافه حتى إنك لتسمع فيها التكبير وترى صورة تشي غيفارا في المشهد ذاته. وعلى الشعب التونسي الذي فتح الطريق أمام شعوبنا بملحمته الرائعة في مقارعة المستبد حتى فر ذليلا مدحورا، أن يقدم نموذجا آخر في عدم التفريط في دماء شهدائه، من خلال بناء دولة الحرية والعدل والديمقراطية.
كيف يجني الشعب التونسي ثمار الدماء الزكية التي سالت في معركة الكرامة الدائرة اليوم ضد الاستبداد والفساد، وكيف يحميها من المتسلقين في جنح الظلام؟
إن فلول نظام ابن علي لن تستسلم بسهولة لثورة الشعب، كما لن تيأس القوى الغربية التي اعتادت العبث بمصائر الشعوب من إمكان التحكم والسيطرة الخفية. وقد رأينا ما يبدو أنه كان محاولة خبيثة لمصادرة هذه الثورة، التي هي أنبل ثورة شعبية ضد أعتى نظام سياسي في تاريخ العرب المعاصر. وهو ما يهيج الذكرى الأليمة لمصادرة الثورة الديمقراطية في الجزائر مطلع التسعينيات، وماتلاها من إغراق بلد المليون شهيد في بحر من الدماء، ووأد تطوره السياسي.
إن الدستور التونسي –على علاته- صريح بحكم التعامل مع الفراغ في السلطة، حيث تنص المادة (57) من الدستور على أنه "عند شغور منصب رئيس الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام يتولى فورا رئيس مجلس النواب مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه ستون يوما... ولا يجوز للقائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة الترشح لرئاسة الجمهورية ولو في صورة تقديم استقالته… وخلال المدة الرئاسية الوقتية يتم انتخاب رئيس جمهورية جديد لمدة خمس سنوات...إلخ".
فهذا نص صريح لا يدع مجالا للبس حول المطلوب دستوريا بعد هرب الدكتاتور المدحور إلى الخارج. لكن البعض فيما يبدو حاولوا التملص من مقتضيات المادة (57)، فادعوا أنهم يتولون السلطة طبقا للمادة (56) من الدستور التي تتحدث عن تفويض الرئيس مهامه لرئيس الوزراء "إذا تعذر عليه القيام بمهامه بصفة وقتية". ومن الواضح أن ابن علي الذي هرب من نقمة شعبه، لا يمكن وصفه بالعجز المؤقت، وهو ما رجع المجلس الدستوري واعترف به أخيرا، في خطوة جيدة تستحق الاحترام. وربما كان من أهداف الذين حاولوا التسلل تحت جنح المادة (56) ترْك الخيارات الزمنية والإجرائية مفتوحة دون نهاية دستورية واضحة، مما يفتح الباب للتلاعب بإرادة الشعب مستقبلا.
ويبدو لي أن أمام الشعب التونسي اليوم أحد خيارين فقط: خيار دستوري و خيار شعبي.
أما الخيار الدستوري، فهو أن يتولى رئيس مجلس النواب رئاسة الجمهورية للمدة الدستورية المنصوص عليها، والتي لا تزيد على ستين يوما، وفي هذه الفترة تعد النخبة السياسية وقوى المجتمع المدني عدتها لخوض انتخابات رئاسية وتشريعية. وهذا الخيار هو الذي بدأ الآن بعد اعتراف المجلس الدستوري بالحقيقة العارية، وهي هرب ابن علي من تونس إلى غير رجعة.
وأما الخيار الشعبي فاللجوء إليه يكون في حالة ارتباك الوضع الدستوري فقط، وخلاصته أن تتواضع الأحزاب المعارضة والقوى النقابية والشخصيات الوطنية التونسية في الداخل والخارج على قواعد للمرحلة الانتقالية، والتوافق على حكومة إنقاذ وطني يتم تمثيل الجيش فيها، ضمانا لقيامه بحفظ الأمن وحياده السياسي، ريثما تتم انتخابات رئاسية وتشريعية عاجلة بمراقبة دولية.
ويمكن الجمع بين الخيارين إذا قرر المجلس الدستوري أن الحكومة الحالية -وقد حلها الدكتاتور قبل رحيله- لم تعد لها شرعية، ولو في تصريف الأمور مؤقتا. وهذا الطريق آمنُ وأضمن للإجماع الوطني الذي تحتاجه تونس اليوم.
ومهما يكن من أمر، فإن من الضروري تمثيل كافة القوى السياسية والاجتماعية في عملية التحول، بحيث تجد هذه القوى صوتها ودورها في مجلس نواب منتخب انتخابا نزيها لا تزوير فيه ولا تزييف. وربما يجدر هنا بالمعارضين السياسيين التونسيين المنفيين بالخارج -من إسلاميين وليبراليين وغيرهم- أن يهرعوا إلى بلدهم للمساهمة في ترجمة ثورة شعبهم إلى مشروع سياسي مثمر، والحيلولة دون تمكن فلول النظام المتهاوي من البقاء ممسكة بزمام الأمور بعد وضع مساحيق على وجهها القبيح.
وللحفاظ على ثمار الثورة التونسية المجيدة، يحسن بالتونسيين الانتباه إلى أربعة محاذير:
أول هذه المحاذير هو الركون إلى السكون بعد رحيل ابن علي، وكأن رحيله غاية في حد ذاته، بينما الغاية ليست هدم النظام الفاسد، وإنما بناء نظام العدل والحرية. فإذا ركن التونسيون إلى الدعة اليوم، واعتبروا سقوط ابن علي نهاية للثورة، فإن مستبدا آخر سيجني ثمرات كفاحهم لتحقيق أهدافه الأنانية.
إن البذور التي سقاها التونسيون بدمائهم الزكية يجب أن لا تضيع سدى، بل يجب أن تثمر ثمار الحرية والكرامة، لقد بذلت أمتنا بحورا من دماء الشهداء في مقاومة الاستعمار، وفي مقاومة الاستبداد، ثم لم تجن ثمرات جهدها وجهادها، وقد آن الأوان للوفاء لدماء الشهداء، وعدم القبول بأنصاف الحلول، أو الوقوف في منتصف الطريق.
وثاني المحاذير هو الركون إلى فرنسا، وهي دولة دعمت ابن علي أكثر من عقدين سياسيا واقتصاديا، مما جعلها شريكا في الجرائم التي ارتكبها ضد شعبه خلال تلك المدة. كما هي اليوم شريك في أكثر من محاولة للالتفاف على تضحيات الشعب خلال الملحمة الأخيرة. لقد رحبت فرنسا بما دعته "الإصلاحات التي تقدم بها ابن علي"، في محاولة منها لحماية عرش الاستبداد المهزوز، أو منحه نفَسا وفسحة وقت ريثما تعدُّ بديلا يخدمها ولا يخدم شعب تونس. وبعد انهيار رأس النظام سعت إلى تخريب الحصاد، وإبقاء الزمرة الفاسدة من خلال الاعتراف بما دعته "الانتقال الدستوري" في تونس.
لقد برهنت فرنسا على أنها لا تريد حرية ولا كرامة للتونسيين منذ أيام استعمارها للبلاد حتى اليوم، فلا شيء يدعو الشعب التونسي إلى الثقة فيها اليوم، بعد أن قرر إمساك مصيره بيديه. أما رفض فرنسا استضافة ابن علي، فلا يختلف عن رفض أميركا استضافة شاه إيران، وهو لا يعني توبة من الطرائق الاستعمارية العتيقة.
وثالث المحاذير هو اختلاف الصف داخل المعارضة بشكل حاد يتيح لفلول نظام ابن علي، أو للعسكريين الطامحين، أو للقوى الفرنسية المتربصة، وأدَ الثورة الشعبية، من خلال التمهيد لصعود قادة جدد دون تغيير جذري في البناء الدستوري والسياسي القائم. فالمطلوب من قادة المعارضة وهيئات المجتمع المدني في تونس اليوم التعالي على الأنانية السياسية، والحرص على تغيير قواعد تداول السلطة في تونس، فلا يهم من سيحكم منهم اليوم، إذا كان ذلك جزءا من تحول ديمقراطي حقيقي، أما إذا وجد الاستبداد سبيلا للرجوع فكلهم سيكونون ضحاياه.
ورابع المحاذير وهو أسوأها هو السماح بالفوضى العارمة لتجتاح تونس، حتى يتمنى الناس تحقيق الأمن في حياتهم بأي ثمن، ولو بحكم استبدادي جديد. فالحس المدني مطلوب في هذه اللحظة، وروح الانضباط والتركيز على الأهداف السياسية في غاية الأهمية. إن ما يتمناه كل مستبد هو أن يضع الشعب أمام خيارين: إما الرضا بحكمه وإما الفوضى والفتنة العارمة، وهذا هو منطق "أنا أو الطوفان" المشهور. فعلى التونسيين أن لا يرضوا بأي من هذين الخيارين.
وربما يكون آكد الأمور خلال هذه اللحظة الحرجة أن يتولى رئاسة الجمهورية التونسية الجديدة رجل وطني يحمل بين جنبيه صفات النزاهة والإيمان المبدئي بالحرية والكرامة والعدل الاجتماعي. ويعترف بأنه خادم للشعب لا جبار يستعبده، ويحظى بقبول من الأطياف السياسية المختلفة. ويوجد من أبناء الشعب التونسي العديدون ممن يتسم بهذه الصفات. وأهل تونس أدرى بسهوبها.
إنها لحظة التمسك بالأهداف النبيلة التي ثار الشعب من أجلها، والتمسك بقطيعة كاملة مع حكم ابن علي وزمرته، وعدم القبول بأي مساومة تُبقي فلول النظام، حتى لا تضيع ثمار الثورة في تونس.