لا أحد يجادل في أن الدولة المركزية الحديثة ،هي وليدة التاريخ القريب لهذا المجتمع الموريتاني ،بحيث أن هذا المجتمع لم يعرف فى تاريخه أى شكل من أشكال التنظيم السياسي الذى يمكن أن يكون نواة ، وقاعدة لتأسيس دولة على غرار ماهو حاصل فى كثير من بلدان المعمورة ، ومن ضمنها أمتنا العربية وعالمنا الإسلامي . ثم إن هذا المجتمع وبفضل تشكلته القبلية والعرقية ونزعته البدوية ظل يستوطن الصحراء ويتخذها ملاذا ، بعيدا عن ضوضاء المَدَنية ، قد أتخذ من ظهور العيس مطية فى رحلاته ،
انتجاعا للمرعى دون أن يخطر له على بال ضرورة الاستقرار ،أو السعي نحو تأسيس شكل من أشكال التحضر أو العمران .زد على ذلك أن نار الحروب والنزاعات ظلت جذوتها مشتعلة ، بين قبائل هذه البلاد السائبة والتي لا سلطان يقيم العدل أو يبسط النفوذ في جنباتها.
ولقد أدت هذه الوضعية إلى خلق واقع قوامه الفوضى العارمة ، والغياب المطلق للسلطة .وسيادة منطق الكر والفر . ولم تستطع الإمارات الناشئة وقتئذ ، أن تسد الثغرات ، أو تحول دون استفحال النعرات . ولقد استمر الأمر على هذه الشاكلة إلى أن جاء المستعمر الفرنسي ، وبمجيئه ستدخل البلاد ، والعباد ، مرحلة فاصلة . وستعقب فترة الاستعمار مرحلة بناء الدولة الحديثة ، والعصرية، والجديدة كل الجدة ، على مجتمع موغل في البداوة ، ويفتقر مخزونه الثقافي إلى أبجديات التنظيم السياسي، وتقاليد الدولة ، وطريقة العيش في حماها .والسؤال الذى يطرح هنا وبإلحاح هو : هل استطاع هذا المجتمع صاحب الوفاض الخالي من ثقافة الدولة وتقاليدها أن يتقبل هذا المولود الجديد بقبول حَسَن ، وينبته نباتا حسنا ، أم أن الرفض وعدم القبول هو الذى سيحدث ؟ لا يخامرنى أدنى شك ، أن الرفض وعدم القبول ، هو الذي حدث . لكن ، لماذا ، وكيف ؟
إن الطبيعة البدوية للمجتمع الموريتاني، وغياب مفهوم الدولة من واقعه المعاش. قد فرضا عليه تصورا قوامه مصارعة الدولة ، وعدم الرضوخ لحاكميتها ، فهي بالنسبة له دخيلا ، وضيفا ثقيلا ، يجب عدم مباسطته . كما أن المجتمع الموريتاني،. والمنزوي جغرافيا ،وجد نفسه فجأة أمام حفنة من الغرباء ، المدججين بالسلاح . وسيظل هذا المشهد مسيطرا على المخيلة الاجتماعية، وسترتبط الدولة الوطنية الحديثة بهذا المنظر.، وهى أنها دولة دخلاء قد اقتحموا البلاد عنوة ، ولاسبيل إلى مناكفتهم .وستبقى هذه الصورة مهيمنة على الأفئدة إلى يوم الناس هذا.، والشيء الذي فاقم من حدة هذا التصور، أن رجالات دولة الاستعمار إبان فترته .،هم الذين ورثوا تركته .، ولم تكن تلك التركة ، سوى الدولة الوطنية المستقلة الحديثة ،فالمجتمع إذن لم يتخلص من هواجسه القديمة ، والمتمثلة فى كون الدولة التى تم الحصول عليها بسرعة البرق ،. كانت صناعة فرنسية استعمارية من مخلفات ،. وكلمة نصارى تعنى للمجتمع البدوي المحافظ، والبعيد عن الانفتاح. عدوا تاريخيا وحضاريا ودينيا ، تجب مقاومته والوقوف فى سبيله.، ولعل هذا ما حدا ، بهذا المجتمع إلى عدم فهم الدولة الحديثة ،والعمل معها ولها .وتتجلى مظاهر هذا الشقاق فى كثير من المظاهر و المسلكيات ، والتي نشهدها كل يوم ، ويحفل بها تاريخ هذا البلد منذ أول يوم انبلج فيه فجر الاستقلال،. إيذانا بظهور دولة موريتانيا المستقلة ..فالمجتمع الأهلي ظلت تسيطر عليه الفكرة الشائعة والمغلوطة ومفادها ، أن هذه الدولة فى واد والمجتمع فى واد آخر. والبون بينهما من الشساعة بحيث لا ينفع معه أى ردم .ومن الغريب فى الأمر ، أن مجتمعنا ظل يعتبر أن الدولة كيان دخيل وجسم غريب على هذا المجتمع .وأصبح هذا التصور مسلمة يتركها الآباء للأبناء . فليس هناك من يعتقد اعتقادا راسخا ، بأن هناك دولة وطنية منبثقة من الأمة ، وأن أمل هذه الأمة فى العزة والفخار كما هو امل كل الشعوب ، والأمم ، لن يتحقق إلا في كنف دولة وطنية هى ملك للشعب.كما أنه قد آن الأوان لهذا المجتمع أن ينبذ وراء ظهره مثل هكذا تصورات ، وأن يعمل مع الدولة ككيان سياسي، يمثل الجميع ، ويعمل من أجل الجميع .لكن يا ترى ما هي أبرز مظاهر عدم إيمان الفرد الموريتاني، أو الجماعة بهذه الدولة ؟
إن المصاعب والمتاعب التي تعرفها بلادنا منذ استقلالها إلى يوم الناس هذا ، مردها إلى أن أبناء هذا المجتمع ما زال الشك يخامرهم حيال دولتهم الوطنية .، فمن رافض لها ، إلى متحائل عليها ، إلى متجابه معها ، واللأئحة تطول... وللمرء أن يتصور، أن ظاهرة التعدى على الأملاك العامة قد شاعت منذ بداية بروز هذه الدولة .، والغريب فى الأمر أن الفرد الموريتانى سواء كان موظفا حكوميا ،او مواطنا عاديا . لايقدم على التعدى على أموال الخواص ولا يستبيحها . وإذا تصادف أن حدث شىء من هذا القبيل ، . فإن ضميره ومحيطه ، سيؤنبانه على سوء فعلته . أما إذا أقدم فلان ، أوعلان من أعوان الدولة على التعدى على أموال وأملاك الدولة فسينظر إليه بعين الرضي،. وقد يعتبره بعضهم بطلا لايبارى " مَاهُ منفوش" وسيكون ثراؤه المشبوه محط إعجاب ، ومدعاة تقدير !.وهذه لعمرى مفارقة لا أخالها تخفى على أى لبيب. إن المجتمع عندنا يقر، ويعترف بحرمة وحيازة الفرد ، ويعمل جاهدا على صيانة وتحصين منزلته .، بينما نجده لايعترف لكيان إسمه الدولة له امكانياته المادية، والمعنوية ، بأبسط حق ولا أدنى تقدير!.ولعل من مظاهر تملص المجتمع من الدولة وعدم القبول بحاكميتها . أنه ونزولا عند رغبة المجتمع فإنه من " المشين " و "المعيب " لأبناء الجهة أو القبيلة أو الأسرة الواحدة . ، أن يبسطوا منازعاتهم ، أو ما قد يشجر بينهم ، أمام قضاء الدولة .،بإعتبار أن خصوصيات هذه الفئات لا ينبغى أن تثار أمام " الغير " أي الدولة !
إن ظاهرة تحايل المجتمع على الخدمات العامة . تؤشر هى الأخرى على أن هناك صراع محتدم ، بين الدولة ، والشعب ،. وقد لا يقف الأمر هنا عند عمليات الغش ، والتزوير، والتهرب الضريبي، وحيازة الاحتياطات العقارية للدولة ،. وهلم جرا...
وهناك ظاهرة التملق ، والمحاباة ، التي دأب أبناء هذه الأمة على إظهارها لأصحاب المراكز الرسمية ، ومحاولة ملاطفتهم ، وملاينتهم ، بل ومداراتهم إذا اقتضى الأمر ، خوفا وطمعا ،وهذا أصدق برهان على أن المخيلة الشعبية ، ما تزال تختزن أساليب " العصا والجزرة " التي كان المستعمر وأعوانه يلجأون إليها إبان مرحلة الاستعمار .، ولم يدر فى خلد هؤلاء أن دولة " النصارى :المستعمر" قد أدبرت إلى غير رجعة ، وأن الدولة أضحت وطنية ،. قلبا وقالبا.
والأدهى من هذا كله ، ما عرفته بلادنا فى فترة معينة من نشأتها ، حيث تم تداول " فتاوى فقهية" صادرة عن مرجعيات دينية ، تحظر الولوج إلى بعض الوظائف الخدمية ، داخل أجهزة الدولة الوطنية ، بحجة عدم الملاءمة مع الشرع .
والأكثر مدعاة للاستغراب ، و الأدعى للشفقة ، ما تعرفه ساحتنا السياسية ، والإعلامية ، بين الفينة والأخرى ، من إقدام بعضهم على تسويق سياسات ، وتبنى أطروحات أجنبية ،. ولو أن الأمر وقف عند هذا الحد لقلنا مرحى ،. لكن داهية الدواهي ، أن يضبط احدهم جهارا ، نهارا ، وهو يدافع عن مصالح ، ومواقف ، بلد ، أو مجموعة بلدان ، لا تتناغم بالضرورة مع رؤى ، و توجهات بلده ،وكأن موريتانيا وطنه الثاني .!. ضاربا عرض الحائط، بالحس الوطني، وبالقول المأثور :
بلادي وإن جارت على عزيزة وأهلي وإن ضنوا على كرام
.
إن مظاهر قطيعة المجتمع مع الدولة كثيرة ، ومتشعبة ، .والمقام هنا لا يتسع لبسطها بشكل كامل . وصفوة القول إن متاعب موريتانيا
السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية.، من التجني بمكان أن نحمل الدولة وزرها .، ونغفل الجانب الاجتماعى، والذي ما تزال شرائحه ـ اللهم إلا ما ندر ـ غير مقتنعة أن هناك دولة ، وطنية ، من صميم هذا الشعب ، وأن واجب الانفتاح عليها ، والتعاطي معها ، والكف عن مجابهتها ، تعد اللحمة ، والسدى ، لتقوية الركن وشد العضد.
لا عذر اليوم لأي أحد ، حول ماهية الدولة الوطنية.، بعد الإصلاحات البنيوية الجبارة ،. والتي تتواصل و تيرتها ، منذ تصحيح السادس أغسطس 2008 .والتي لن تكون المراجعات الدستورية الأخيرة آخرها.