كلمة الإصلاح كانت آخر ما تعالجه من هذا العنوان وهو "التعايش الدنيوي بين موريتانيا وإسلامها " هو إلفات النظر إلى أن الديمقراطية من حيث هي وهو أن المكتشفون لها والرواد في السير على طريقها وهم الأوربيون بدون تفصيل ـ لم يلتـزموا بطريقها والحث على التزامها إلا بحثا عن توفير الحياة السعيدة والحرية الكاملة و تـثبـيت الحقوق الإنسانية للإنسان ـ ونحن المسلمين ندرك جيدا أن وجود هذا الإنسان فوق هذا الكوكب الأرضي لم يقع بنفسه وأن نهايته وتـفاوته
في هذه النهاية ليست نهاية محضة ـ ولكن الله أوجده لعبادته جميعا فوق هذه الأرض التي دحاها له وتحت هذا السماء التي رفعها فوقه ، ولكن العبادة تكون وفق ما شرعه لها من تشريعات وفي نفس الوقت الذي قضى الله فيه بخلق هذا الإنسان قضى فيه بعدله أن يكون منه مؤمن بما خلق من أجله ومنهم كافر فالمؤمن ينـفذ ما خلق له إما تـنـفيذا ناقصا وإما تـنـفيذا كاملا وفي الأخير وعده بأن من أحسن عمله فسوف تكون حياته طبية في الدنيا والآخرة ـ ومن أساء عمله في هذه الدنيا فقد خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبـيـن .
فالمولى عز وجل يقول (( أفمن وعـدناه وعدا حسنا فهو لا قيه )) ومن فضله أنه اتبع ذلك بقوله(( كمن متعناه متاع الحياة الدنيا قثم هو يوم القيامة من المحضرين )) بمعنى أن من وعده الله بأي جزاء لعمله الصالح فهو لاقيه لا محالة ومن وعده وعدا سيـئا على عمله السيء فهو من المحضرين إليه يوم القيامة إن شاء عـذبه وإن شاء غـفر له .
فكل هذا يعنى أن الديمقراطية وقوانينها وصرامة تـنـفـيذ تـلك القوانين مادامت ليست صادرة من الشرع ولا مأخوذ منه بنية القصد الإسلامي في الأخـذ فهي لا تكون أبدا بديلا عن أوامر الله ولا عن نواهيه .
ولكن مقاصد الشريعة التي أو ردها الله أصولها كثيرة في القرآن وجاءت كثيرة كذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في العمل بها وفي العمل بها مندوحة كبيرة تخدم العدل والحرية والمساواة وتخلق الأتباع لنهج رسول لله صلى الله عليه وسلم وسلوك الطريق المستـقيم الذي دعى إليه أمته يقول تعالى (( وأن هذا صراطي مستـقيما فاتبعوه ولا تـتـبعوا السبل فـتـفرق بكم عن سبـيـله ذالكم وصاكم به لعلكم تـتـقون) فالله يقول في تـلك القواعد العامة ((والله يعلم المفسد من المصلح)) ـ وقد وردت هذه الآية في أخطر عمل وعـد الله على مخالفـته لآكل مال اليتيم بأن فاعل ذلك كأنما يأكل النار مباشرة يقول تعالى(( الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا )) ومع هذا الوعد الشديد يقول تعالى ((وإن تخالطوهم))أي اليتامى وتتصرفون في أموالهم كما تـتـصرفون في أموال إخوانكم الآخرين غير اليتامى فالله يعلم المفسد (منكم) من المصلح بمعنى أن المسلم إذا أراد الإصلاح في أي عمل يقوم به سواء كان يسمى الديمقراطية أو عنده أسماء أخرى ونيته أنه يريد به إصلاح نفسه أو المجتمع أو النصح للإسلام فإن الله يعلم ذلك ويجازيه على نية ذلك الإصلاح .
وهذا عام في كل عمل يراد به الإصلاح إلا أنه إذا كان هناك نص من الله أو من رسول لله صلى الله عليه وسلم أو نص قد اجتمع عليه علماء الأمة فذلك يعنى أن هذا النص هو الأصلح للمسلمين ولا ينبغي العدول عنه مهما كان ظاهر العمل الجديد الإصلاح وهو مخالف لتـلك النصوص فالله يقول هنا (( والله يعلم وأنـتـم لا تعلمون )) .
ومثـل هذه النصوص العامة الفاتحة للطريق المستـقيم على مصراعيه على المسلم أن ينـظر في نفسه إذا كان مسلما فيما يراه أقرب نفعا وأقـل ضررا على المسلمين فـليفعله ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح : لا ضرر ولا ضرار لا تفعل ما يضرك ولا تـفعل ما يضر أخاك كما قال في خصومة الوالدين في ولدهما :((لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده )) حتى أن الشرع يأمر المرأ في أن يحكم لنفسه أو على نفسه إذا رأى في ذلك أنه الحق يقول صلى الله عليه وسلم : استفـتي .قـلبك وإن أفتاك الناس واقـتوك وافـتوك مكررة للتأكيد .
وهذا يعنى أن هذه الديمقراطية التي استوردناها من غبرنا وظاهرها أنها تبحث عن إحقاق الحق وإبطال الباطل فعـلينا نحن المسلمين أن نعلم أن هذا هو الطريق المستـقيم الذي أرشدنا الله إلى طلب الهداية إليه دائما ألا وهو إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وبما أن النصوص التي عندنا نحن المسلمين إما صادرة من خالق هذا الإنسان لتطبـيقها عليه وإما صادرة ممن لا ينطق عن الهوى وهو محمد صلى الله عليه وسلم فعـلينا أن يكون أخذنا بالديمقراطية يعنى تمرير نصوصها وأوامرها طبقا للنصوص العامة التي ترك لنا الإسلام قواعدها العامة لتـنـفيذه على ضوئها لتصلح لنا دنيانا وآخرتـنا .
ولذا فإن الحديث الصحيح الذي هو أصل الاجتهاد الإسلامي عند عدم وجود النص الإسلامي فيه فقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ ـ رضي الله عنه ـ بالأخذ برأي نفسه عند عدم وجود نص حيث سأله عندما أمره أن يذهب إلى اليمن ليكون هو الحاكم الفعلي الإسلامي لشعب اليمن المسلم .
فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن سلمه أمر التعيـين إما مكتوبا أو مصرحا به فقط قائلا له ما معناه : أنت سوف تذهب حاكما إسلاميا في أهل اليمن إذا فماذا سوف تحكم به فأجابه معاذ بقوله: سوف نحكم فيهم بكتاب الله فرد عليه أيضا فإن لم تجد فقال بسنة رسول صلى الله عليه وسلم فرد عليه أيضا فإن لم تجـد فقال له : برأيي ولا ألوا جهدا فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك فهذه الفكرة الصادرة من نفس معاذ من غير أن يقول هو للرسول صلى الله عليه وسلم قل لي إذا لم نجد كتاب الله ولا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في المسألة ماذا نفعل ؟ بل قال أقضي وأحكم على المسلمين برأيي وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من شدة اتباع معاذ لمبادئ الإسلام ومعرفته لتـلك المبادئ فقد أقره على حكمه برأيه لعلمه أنه لا ينبع فيه هواه مع أن معاذا قال أمامه الكلمة المتممة للحكم وهي لا ألوا جهدا في رأي من البحث عن العدالة .
ومن هنا فعلي المسلمين عامة عندما ما وضع العالم أمامهم هذه الديمقراطية وألزمهم بالأخذ بها مع أنهم عندهم نصوصا أكثر ديمقراطية وأقـوم قـيلا عليهم إذن أن يضعوا نصوص هذه الديمقراطية بين أيديهم ليحولوا العبارات فيها التي لا يحب الشخص بعد أن يموت أن يكون قد ارتضاها أو عمل بمعناها حرفيا راضيا بها كبديل عن النص الإسلامي .
فمثـلا تـقول المادة (2) من الدستور أن الشعب هو مصدر كل سلطة ـ السيادة الوطنية ملك للشعب الذي يمارسها عن طريق ممثـليه المنـتـخبـين .
هذه المادة منطوقها لا يتـناسب مع منطوق المادة(5) التي تـقول : الإسلام دين الشعب والدولة لأنه مادام الإسلام دين الدولة والشعب فمعناه أن السلطة والسيادة هي لأوامر الله ونواهيه في تـشريعه الواسع المنطبق على الجميع .
وهذه العبارة يمكن تبديلها إسلاميا بالقول بأن السلطة والسيادة تكون طبقا لأوامر شرع الله وينـفذها المسئول الذي مكن الله له في الأرض لتطبـيق القانون الإسلامي على الشعب .
كما أن عملية الانـتـخاب المقررة في الديمقراطية لا تحقق العدالة ولا نزاهة الانـتخاب ـ وكان بوسع علماء المسلمين في الدول الإسلامية أن تجسم آلية في الدول الإسلامية أساسها النصوص الشرعية الإسلامية مثـل تعيـين جماعة مختارة من كل حي في الدولة يعيش في حيز من التراب واحد ويعينون من ينوب عنهم في جماعة الحل والعقد الكبرى في تعيـين المسؤول الأول في البلاد والمسؤول أمام الله عن تحقيق العدالة والحرية والمساواة .
فكم من نصوص شرعية تدعو للحرية والمساواة في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة وفي اجتهاد العلماء ذلك الاجتهاد المبني على الشريعة الإسلامية والمستخرج من أصول فقهها: فيه من النظام الديمقراطي الكفيل بالتفوق الكامل على الديمقراطية المستوردة ممن لا يرجوا لقاء الله والله يقول ((فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا )) وهذا الشرك المنهي عنه سواء كان الشرك بالأشخاص الحقيقيـين أو الأشخاص المعنويـين مثـل الديمقراطية وما جاءت به من القوانين.
إنـني بصفـتي مسلما أحب للمسلمين ما أحبه لنفسي أنبه المسلمين الذين يعملون في السياسة وفي نفس الوقت هم مسلمون بأن العمل بالديمقراطية لا يكون أبدا بديلا عن ملاحظة أي تحرك أو قول أو فعل يفعله المسلم إلا وهو مسجل في سجله الذي سوف يوضع على الميزان إما في كفة الخير أو في كفة الشر يقول تعالى (( وكل شيء فعلوه في الزبر)) وكل صغير وكبير مستطر ، فالدعاية العادية للأفراد والتزوير والنفاق الخ كل ذلك مكتوب في الزبر ليقرأه صاحبه غدا بين يدي الله .
فالعبارات الناعمة الكاشفة في ظاهرها عن عمق العدالة في التصرف إذا لم يصرفها المسلم القائم بها إلى فعلها تحت الأوامر المرجو جزاءها والمخوف من عقابها في الآخرة من الله جل جلاله تعـتبر تحت طائلة (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منـثورا )) .
إذن فملخص هذه الحلقات الثلاث عن التعايش السلمي الدنيوي بين الديمقراطية الغربية والإسلام الذي هو دين الدولة والشعب ولله الحمد لا ينبغي للمسلم أن يركن إلى هذا التعايش الدنيوي الذي تـنـتهي مسؤوليته الديمقراطية عند الموت مباشرة وتبقي مسؤوليته الإسلامية تـنـتظر فحوى قوله تعالى ((وإن كان مثـقال حبة من خردل أتيـنا بها وكفى بنا حاسبـين )) والعلماء فسروا كلمة قدر وزن مثـقال الذرة المتكررة في القرآن بأن ذلك الحسنة والسيئة التي تزن أي منهما مثقال الذرة سوف يعـتـد بها في الوزن الحق يوم القيامة كما قال تعالى(( والوزن يوم الحق ))الخ الآية .
فمثلا قول لقمان وهو يخاطب ابنه كما جاء في القرآن (( يا بني إنها( أي الحسنة أو السيئة) إن تك مثـقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يات بها الله )) لوضعها في الميزان .
وأخيرا فأقول لمن لم يتـنبه من المسلمين لهذا الفارق الكبـير ما قاله مؤمن آل فرعون مع الفارق ولله الحمد بين مسلمي الديمقراطية وعمل آل فرعون يقول ذلك المؤمن (( فستـذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري لله إن الله بصير بالعباد .