ونظرا لما أثارته القناة المذكورة، فأرى لزاما علىّ أن أعرّج قليلا على تلك المقارنات، لأبصّر القراء والمشاهدين بحقيقة الأمر، على رسم الاختصار. وبالله التوفيق.
***
ـ أولا: الجعد بن درهم: خلاصة القول فيه أنه معطِّلٌ أنكر أن الله تعلى كلم موسى تكليما، وأنه اتخذ إبراهيم خليلا.
وفضلا عن كون هاتين المقولتين تكذيبا صريحا لنص القرآن الكريم ـ وذلك كفر بَوَاحٌ ـ فإنه يلزم من إنكارهما أيضا لوازمُ تصادم بعض أصول الدين وقطعياتِه.
ولما اشتهرت عن الجعد مقالتُه ضحَّى به الأمير خالد بن عبد الله القَسْرىّ يوم النحر من عام 124هـ، ثم صلبه ليكون فى ذلك مُزدجَرٌ، وعِبرةٌ لمن اعتَبر.
فعن حَبِيبِ بْنِ أَبِى حَبِيبٍ قَالَ: خَطَبَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ القَسْرِىُّ بِوَاسِطَ يَوْمَ أَضْحى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ارْجِعُوا، فَضَحُّوا، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ؛ فَإِنِّى مُضَحٍّ بِالجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ؛ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا. سُبْحَانَهُ وَتعلى عَمَّا يَقُولُ الجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ إِلَيْهِ فَذَبَحَهُ".
أخرجه البُخَارِىّ فى خلق أَفعَال العباد، والدارمىّ فى الرَّد على الجَهْمِية، والبَيْهَقِىّ فِى الأَسْمَاء وَالصِّفَات، وَأوردهُ الذَّهَبِىّ فِى العُلُوّ...وغيرُهم.
فالقصة مشهورة جدا، خرجها هؤلاء الأئمة وغيرُهم، وتداولها أهل التواريخ والأخبار فى المدونات والأسفار. وعضَدوها بأن من حضر من خاصة المسلمين وعامتهم وافقوه على ما فعل، ولم يعترضوا عليه؛
وتكلم بعضٌ فى إسنادها. وقد اعتذر عن ذلك بعض من اعتذر بأن شهرتها تغنى عن إسنادها، وإن كان فى هذا الجواب نظر.
وقد أوردها مسلَّمةً من لا يحصَى من العلماء، حتى إن ابن القيم نص عليها فى قصيدته النونية الشهيرة.
وقصارى ما يؤخذ منها أن الأمير المذكور لم يزد على أن أنفذ حد الردة فى المعطِّل النافى لصفات الرب جل وعلا، المكذبِ للقرآن الكريم، فحدُّ الردة ثابت بالنص والإجماع، رغم أنوف العَلمانيين والملاحدة المعاصرين.
وقول خالد: "فإنى مضحٍّ بالجعد" إطلاق لغوىّ، كقول حسان بن ثابت فى تشنيع مقتل عثمان رضى الله عنهما:
"ضحّوْا بأشمطَ عُنوانُ السجود به/ يقطّع الليل ترتيلا وقرآنا".
وأما ذبحه إياه، فقد أجاب عنه بعضهم بأن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال، كما فى
حديث عبد الله بن عَمْرٍو: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ إِلَّا بِالذَّبْحِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ، قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ، مَا كُنْتَ جَهُولًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ مِنْهُمْ. وإسناده حسن، أخرجه أحمد، وابن أبى شيبة، وابن حبان فى صحيحه، وأبو يعلى، والبيهقىّ فى دلائل النبوة، وغيرُهم.
ولبحث هذه المسألة موضع غير هذا.
وخالد بن عبد الله، وإن لم يكن مَرْضِىَّ السيرة، فإن هذا الفعل منه ــ أعنى قتله الجعد بنَ درهم ــ محلُّ اتفاق بين أهل السنة والجماعة، بغض النظر عن كيفيته.
والمؤسف حقا أن الجعد قبل هلاكه كان قد لقّن ديانته الخبيثة هذه للجهم بن صفوان الراسبىّ السمَرقندىّ الذى سيصبح فيما بعد رأس المعطلة النفاة المعروفين بالجهمية. وهى فرقة مجمع على كفرها بين أئمة السلف، رضى الله عنهم أجمعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المشهور من مذهب الإمام أحمد، وعامةِ أئمة السنة، تكفيرُ الجهمية، وهم المعطلة لصفات الرحمن، فإن قولهم صريح فى مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقةُ قولهم جحود الصانع، ففيه جحود الرب، وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسله. ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكى كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكى كلام الجهمية.
وقال غير واحد من الأئمة: إنهم أ كفر من اليهود والنصارى، يعنون الجهمية، ولهذا كفَّروا من يقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى فى الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإن الله ليس له علم، ولا قدرة، ولا رحمة، ولا غضب، ونحوُ ذلك من صفاته". (مجموع الفتاوى: 12/ 486، 487).
وسند هذه الديانة ظلماتٌ بعضُها فوق بعض: فهى كما ذكر الأئمة المحققون: عن الجهم بن صفوان عن الجعد بن درهم عن بيان بن سمعان عن طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودىّ الذى سحر النبىّ صلى الله عليه وسلم، ــ وكان يقول بخلق التوراة ــ عن يهودىّ من أهل اليمن.
وقد ذكر هذا السند جماعة من الحفاظ كابن عساكر وابن تيمية وابن كثير وابن القيم والسيوطىّ، وكثيرٌ غيرهم.
فمثلا يقول ابن عساكر: "وأخذ الجعد ابن درهم من بيان بن سمعان، وأخذ بيان من طالوت، وأخذ طالوت من لبيد ابن أعصم اليهودىّ الذى سحر النبىّ صلى الله عليه وسلم، وكان لبيد يقرأ القرآن، وكان يقول بخلق التوراة، وأول من صنف فى ذلك طالوت، وكان طالوت زنديقًا، وأفشى الزندقة، ثم أظهره جعد بن درهم".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فى الرسالة الحمَوية: "أصل مقالة تعطيل الصفات إنما أخِذ من تلامذة اليهود، والمشركين، وضلّال الصابئين، فإنه أول من حُفظ عنه أنه قال هذه المقالة فى الإسلام: الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها، فنسبت مقالة الجهمية إليه...
وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حَرّان، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة: بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين فى سحرهم... وكانت الصابئة إلا قليلا منهم إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركا، بل قد يكون مؤمنًا باللَّه واليوم الآخر، كما قال تعلى: (إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
لكنّ كثيرًا منهم، أو أكثرهم كانوا كفارًا ومشركين، فأولئك الصابئون كانوا إذ ذاك، وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل. فمذهب النفاة من هؤلاء فى الرب سبحانه: أنه ليس له إلا صفات سلبية، أو إضافية، أو مركبة منهما، وهم الذين بُعث إبراهيم خليل الرحمن ـ عليه الصلاة والسلام ـ إليهم، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة وأخذها الجهم عنه، وأخذ المقالةَ الجهمُ أيضًا ـ فيما ذكره سيدنا الإمام أحمد، رضى اللَّه عنه، وغيرُه ـ من السُّمَنِيَّة، وهم بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحِسّيات.
فهذه أسانيد الجهم ترجع إلى اليهود والنصارى والصابئين والمشركين، والفلاسفة الضالين، إما من الصابئين، وإما من المشركين..."اهـ .
وكان ظهور الجعد فى أواخر دولة بنى أمية.
ويقول ابن النديم فى الفِهْرِسْت: "كان الجعد بن درهم الذى يُنسب إليه مروان بن محمد، فيقال مروان الجعدىّ، وكان مؤدباً له ولولده، فأدخله فى الزندقة". اهـ
وقال ابن القيم: "فلما كثرت الجهمية فى أواخر عصر التابعين كانوا هم أولَ من عارض الوحى بالرأى، ومع هذا كانوا قليلين أوّلاً، مقموعين، مذمومين عند الأئمة، وأولهم شيخهم الجعد بن درهم، وإنما نفَق عند الناس بعضَ الشىء، لأنه كان معلِّمَ مروان ابنِ محمد وشيخَه، ولهذا كان يسمى مروانَ الجعدىَّ، وعلى رأسه سلَب الله بنى أمية الملك والخلافة، وشتّتهم فى البلاد، ومزّقهم كل مُمَزَّق ببركة شيخ المعطلة النفاة!". اهـ
ولكن من هو شيخ الجعد بن درهم: بيان؟
يقول الذهبىّ فى تاريخ الإسلام: " بَيَانُ بْنُ سَمْعَانَ التَّميمِىُّ النَّهْدِىُّ، لَعَنَهُ اللَّهُ: (120هـ)
ظَهَرَ بِالعِرَاقِ، وَقَالَ بِإلهِيَّةِ عَلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّ فِيهِ جُزْءًا مِنَ الإِلهِيَّةِ مُتَّحِدًا بِنَاسُوته، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِن بَعْدِهِ فِى ابنه محمد ابن الحَنَفِيَّةِ، ثُمَّ فِى وَلَدِهِ أَبِى هَاشِمٍ، ثُمَّ مِن بَعْدِهِ فِى بَيَانٍ؛ يَعْنِى نَفْسَهُ. ثُمَّ إنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى أَبِى جَعْفَرٍ البَاقِرِ يَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ نَبِىٌّ.
قَتَلَهُ خَالِدُ بن عبد الله القسرىّ أمير العراق". (3/214). وانظر الوافى بالوفَيات للصفَدىّ: (10/205).
ومن هو تلميذه: الجهم بن صفوان؟
قال الذهبىّ فى الميزان: "جهم بن صفوان، أبو محرز السمرقندىّ، الضالّ المبتدع، رأس الجهمية.
هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئا، لكنه زرع شرا عظيما". (1/426).
وقال الصفَدىّ فى الوافى بالوَفَيَات:
"جهم بن صَفْوَان رَأس الجَهْمِية الَّذِى يُنسبون إِلَيْهِ، من المجبرة، ظَهرت بدعته بترمذ، وَقَتله سَالم ابن أحوز الْمَازِنىّ، فى آخر ملك بنى أُميَّة. ذهب إِلَى أَن الإنسَان لَا يُوصف بالاستطاعة على الفِعْل، بل هُوَ مجبور بِمَا يخلقه الله تَعلَى من الأَفْعَال، على حسب مَا يخلقه فِى سَائِر الجمادات، وَأَن نِسْبَة الفِعْل إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ بطرِيق الْمجَاز، كَمَا يُقَال: جرى المَاء، وطلعت الشَّمْس، وتغيَّمت السَّمَاء، إِلَى غير ذَلِك.
وَوَافَقَ المُعْتَزلَة فِى نفى صِفَات الله الأزليّة، وَزَاد عَلَيْهِم بأَشْيَاء مِنْهَا: أَنه نفى كَونه حيّاً عَالما...
وَمِنْهَا: أَنه قَالَ: لَا يجوز أَن يعلم الله تَعلَى الشَّىْء قبل خلقه...
وَكَانَ السّلف الصَّالح، رَضِى الله عَنْهُم، من أَشد النَّاس ردّاً على جهم، لبدعه القبيحة، وَكَانَت قتلته فِى حُدُود الثَّلَاثِينَ والمائة...
ترك الصَّلَاة أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَأنْكر عَلَيْهِ الوَالِى، فَقَالَ: إِذا ثَبت عِنْدِى مَن أعبُده صليت لَهُ، فَضرب عُنُقه". اهـ باختصار (11/160 ــ 161).
وصفوة القول: أنه بئس الصاحبان المكتنِفان للجعد: السابقُ واللاحقُ: شيخه بيان بن سمعان، وتلميذه الجهم ابن صفوان - وعن باقى السلسلة، صعودا ونزولا، فلا تسأل ـ ،
وأنّ قتل الجعد بن درهم موافقٌ للشرع، فلا يجوز الاعتراض عليه، وليس للسياسة، أو المواقف الشخصية فيه مدخل.
فأىّ محنة هاهنا؟ وأىّ ظلم وقع على المخذول؟
وكذا قتْل ابن امخيطير الشانئ الأبتر المرتدّ المسىء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو واجب شرعىّ مجمعٌ عليه. ومن خامره أدنى شكّ فى ذلك، فليقرأ الكتب والرسائل المصنفة ـ قديما وحديثا ـ فى هذا الباب. ولا يجوز للمؤمن بالله واليوم الآخر أن تأخذه رأفة بمن يحادون الله ورسوله، أو يحزنَ عليهم إذا نزلت بهم العقوبات القدرية أو الشرعية. وإنما الواجب المتعين عليه أن يكون شعاره: (فكيف ءاسى على قوم كافرين).
***
يتواصل بإذن الله عز وجل.