الشانئ الأبتر والمحن الثلاث (ح4) / إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدي

ــ ثانيا: عبد الله بن المقفع، هو: روزبه بن ذادويه الفارسىّ، كان مجوسيا، ثم أسلم، وتَسَمّى بعبد الله، وتكَنى بأبى محمد، ولد عام 106هـ ، وهلك عام 142هـ عن ست وثلاثين سنة. وقد عاصر الدولة الأموية، وبداياتِ الدولة العباسية. كان مفكرا فارسيا، درَس الأدب العربىّ، ونقل من اللغة البهلوية كتاب "كليلة ودمنة".
وله كتاب "الأدب الكبير"، وهو فى علاقة الراعى بالرعية، و"الأدب الصغير" فى آداب النفس وتهذيبها.

وله معرفة واسعة بالثقافات القديمة، وخصوصا تراث الفرس والهند واليونان، بالإضافة إلى معرفته باللغة العربية وآدابها.
وكان يُتهَم بالزندقة. قال الإمام الحافظ ابن كثير: "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُقَفَّعِ الكَاتِبُ المُفَوَّهُ، أَسْلَمَ عَلَى يَدِ عِيسَى بْنِ عَلِىٍّ عَمِّ السَّفَّاحِ وَالمَنْصُورِ، وَكَتَبَ لَهُ.
وَلَهُ رَسَائِلُ وَأَلْفَاظٌ فَصِيحَةٌ، وَكَانَ يُـتّـَهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ. وَهُوَ الَّذِى صَنَّفَ كِتَابَ "كَليلَةَ وَدِمْنَةَ"، وَيُقَالُ: بَل هُوَ الَّذِى عَرَّبَهَا مِنَ المجوسِيَّةِ إِلَى العَرَبِيَّةِ.
قَالَ المهْدِىُّ بْنُ المَنْصُورِ: مَا وَجَدْتُ كِتَابَ زَنْدَقَةٍ إِلَّا وَأَصْلُهُ مِنِ ابنِ المُقَفَّعِ.
قَالَ الجَاحِظُ: الزَّنَادِقَةُ ثَلَاثَةٌ: ابْنُ الْمُقَفَّعِ، وَمُطِيعُ بْنُ إِيَاسٍ، وَيَحْيَى بْنُ زِيَادٍ. قَالُوا: وَنَسِىَ الجَاحِظُ نَفْسَهُ، وَهُوَ رَابِعُهُمْ. وَكَانَ مَعَ هَذَا فَاضِلًا بَارِعًا فَصِيحًا". اهـ (13/384، ط: هجر).
وقتِل ابن المقفع ـ فى ظاهر  الأمر ـ على أساس تلك التهَمة، لكن كتبه الموجودة اليوم مثل كليلة ودمنة، والأدب الكبير، والأدب الصغير لا يوجد فيها تصريح بشىء من الإلحاد والزندقة.
والواضح من ترجمته، فى المصادر التى اطلعت عليها، أنه قُتل ـ أساسا ـ لأسباب شخصية، مع التهَمة المذكورة؛ فقد كان على خلاف شديد مع سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبى صفرة والى البصرة من قِبَل أبى جعفر المنصور، وكان يحتمى منه بعيسى وسليمان ابنىْ علىّ بن عبد الله بن عباس. فكان ابن المقفع يستخفّ بالأمير، ويصف أمه بأقبح الأوصاف، وربما ذكر جهل العرب بالإدارة، وتصريف الشأن العام.
ثم إن الأمير دبّر مكيدة، بعد أن صدر له الأمر من الخليفة سرا ـ على ما يبدو ـ ، فقتله فى أحد دهاليز قصره على غير مَرْأًى من الناس.
وكانت فَعلة الأمير بابن المقفع فَعلة منكرة شنيعة، حيث قتله شرّ قِتلة. قال ابن كثير: "وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَى يَدِ سُفْيَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ المُهَلَّبِ بْنِ أَبِى صُفْرَةَ نَائِبِ البَصْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَعْبَثُ بِهِ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُسَمِّيهِ ابْنَ المُغْتَلِمَةِ، وَكَانَ كَبِيرَ الأَنْفِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمَا، عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّم.
وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: مَا نَدِمْتُ عَلَى سُكُوتٍ قَطُّ. فَقَالَ: صَدَقْتَ، الخَرَسُ خَيـر لَكَ. فَاتَّفَقَ أَنَّ المنْصُورَ تَغَضَّبَ عَلَى ابْنِ المقَفَّعِ، فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ سُفْيَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ هَذَا أَنْ يَقْتُلَهُ، فَأَخَذَهُ فَأَحْمَى لَهُ تَنُّورًا، وَجَعَلَ يُقَطِّعُهُ إِربًا إِربًا، وَيُلْقِيهِ فِى ذَلِكَ التَّنُّورِ حَتَّى أَحْرَقَهُ كُلَّهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَطْرَافِهِ كَيْفَ تُقطعُ، ثُمَّ تُحرقُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِى صِفَةِ قَتْلِهِ". اهـ (13/385 ــ ط: هجر).
ويُذكر أن ابنىْ علىّ بن عبد الله بن العباس المذكوريْن أشخصا الوالىَ المذكور إلى الخليفة، وطالباه بالقصاص، فدخل على الخليفة ليلا، وكلمه، فبرّأ ساحته، على ما يبدو.  فكان عاقبةَ ابن المقفع أن سُفك دمه، فكان بين الخليفة وواليه أمرا وإنفاذا.
لكن ذكر ياقوت الحموىّ فى معجم الأدباء، ضمن رسالة مطولة، ما يمكن أن يُستدلّ به على  أن لدعوى زندقته أصلا. فقد جاء فيها ما لفظه:
"ومن قصور عقل ابن المقفع أنه مرّ ببيت النار ـ وكان من أولاد كسرى ـ فتنفس الصُّعَداء، وتمثّل ببيت الأحوص بن محمد الأنصارىّ:
(يا بيت عاتكة الذى أتعزل ... حذرَ العدى وبه الفؤادُ موكّل)
فاتهِم بالمجوسية".  اهـ (3/968، ط: دار الغرب الإسلامىّ).
وبالمناسبة، فإن ترجمة ابن المقفع ساقطة، ضمن تراجمَ أخرى، من مطبوعة ياقوت!
وذكر الذهبىّ فى سِير أعلام النبلاء أن ابن المقفع قال لعيسى بن علىّ: "أُرِيدُ أَنْ أُسْلِمَ عَلَى يَدِكَ بِمَحضَرِ الأَعْيَانِ. ثُمَّ قَعَدَ يَأْكُلُ، وَيُزَمْزِمُ بِالمَجُوسِيَّةِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
قَالَ: أَكرَهُ أَنْ أَبِيتَ عَلَى غَيْرِ دِينٍ.
وَكَانَ ابْنُ المُقَفَّعِ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ". اهـ (6/209، ط3، الرسالة).
فإذا ضمَمنا إلى هذين النصين كلمة المهدىّ السابقةَ، وهى مشهورة قد تداولتها المصادر، وكلمةَ الجاحظ فى عدّه ضمن ثلاثة هم الزنادقةُ عنده، أمكن أن يقال إن ابن المقفع أصل من أصول الزندقة فى هذه الأمة.
وعلى هذا يكون عده ضمن قائمة المبرَّئين منها أمرا ليس بالميسور.
فيكون قتله واردا، لكن لا يوافَق الأمير على تقطيعه إرْبا إربا، وإحراقه تنكيلا وبطشا.
وأيًّا ما يكن الأمر، فالمسىء ببلدنا لم يمتحَن، ولم يُقَم عليه حدّ، وابن المقفع قتل لزندقته، ولطيْشه الذى أرْداه.
ففيمَ البكاء؟
وفيمَ التباكى
إذن؟
***
يتواصل بإذن الله عز وجل.

23. نوفمبر 2017 - 15:10

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا