اعتاد المجتمع العربي نهج المغالطة في كل شيء، فالابن يغالط أباه، والتلميذ يغالط أستاذه، والسياسي يغالط في سياسته؛ ومن أشد هذه المغالطات مغالطات السياسيين الذين لا يريدون إصلاحا، وإنما يريدون التمهيد لحكم استبدادي مطلق.
فما هو الاستبداد؟ وما هي آلياته؟ وما هو موقفنا منه في هذا الظرف الحالي؟
المتصفح للتاريخ عموما سيجد من المغالطات ما يضَعُه في حَيِّزِِ ضيق لا مخرج منه،
إلا أننا سنقتصر على مغالطات مستبدي الحكم الذين تحفزهم بطاناتِهم بتكرير #العاجز من لا يستبد
مستغلين قول عمر بن أبي ربيعة لهند:
واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد
ناسين أو متناسين، أن ذلك في مجال الحب لا الحكم، وأنه قيدها بقوله #مَرَّةََ، حتى لا يُتوهَّم أنه استبداد أبدي، إذ لا طعم للحب بالضغط على أحد الجانبين بدل التعاطي وإظهار العاطفة.
فإذا كان الاستبداد الأبدي غير مقبول في الحكم من طرف جنس لطيف، فما بالك باستبداد طاغية تُباد باستبداده وجبروته الأمم؟رحم الله الكواكبي إذ يقول في كتابه طبائع الاستبداد "إن ﺍﻟﻤﺴﺘﺒﺪ ﻓﻲ ﻟﺤﻈﺔ ﺟﻠﻮﺳﻪ ﻋﻠﻰ ﻋﺮﺷﻪ ﻭﻭﺿﻊ ﺗﺎﺟﻪ ﺍﻟﻤﻮﺭﻭﺙ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻪ ﻳﺮﻯ ﻧﻔﺴﻪ ﻛﺎﻥ ﺇﻧﺴﺎﻧﺎً ﻓﺼﺎﺭ ﺇﻟﻬﺎً".
ومن أشد بلايا الاستبداد أن المستبد تقتدي به حكومته، فتكون ﻣﺴﺘﺒﺪﺓ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻓﺮﻭﻋﻬﺎ ﻣﻦ المستبد ﺍﻷﻋﻈﻢ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺸﺮﻃﻲ، ﺇﻟﻰ البواب، ﺇﻟﻰ ﻛﻨّﺎﺱ ﺍﻟﺸﻮﺍﺭﻉ، ضاربين الأمثلة القياسية في الاستبداد، لأن أمر الرعية لا يهمهم، فهم أﺳﺎﻓﻞ ﻻ تهُمهم ﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ ﻭﺣﺴﻦ ﺍﻟﺴﻤﻌﺔ، وﺇﻧﻤﺎ غايتهم هي تحسين سمعتهم لدى مخدومهم ليبرهنوا له أنهم ﻋﻠﻰ ﺷﺎﻛﻠﺘﻪ، ﻭأنهم ﺃﻧﺼﺎﺭ ﻟﺪﻭﻟﺘﻪ، وبتلك الطبائع الشرسة يأمن المستبد مكرهم ﻓﻴﺸﺎﺭﻛﻬﻢ ﻭﻳﺸﺎﺭﻛﻮﻧﻪ، وأشار الكواكبي إلى أن "ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻔﺌﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﻳﻜﺜﺮ ﻋﺪﺩﻫﺎ ﻭﻳﻘﻞ ﺣﺴﺐ ﺷﺪﺓ ﺍﻻﺳﺘﺒﺪﺍﺩ ﻭﺧﻔﺘﻪ".
فعندما يكون المستبد حريصا على طغيانه ويسعى جاهدا في كل وقت تمرير قوانينه التي يستمدها من هواه دون مبرر شرعي أو قانوني، يكون محتاجا إلى زيادة تلك الفئة في جميع القطاعات لتُعَضِّد له حكمه، وتُمَرِّر له ما أراده دون مراجعة، بدءا بقطاع العسكر ومرورا بالفقهاء لينتقي من بينهم من يجادل ويدافع عن مشاريعه ويصرف النصوص عن ظاهرها لتتماشى مع ما أراده...إلخ
وقد عرف الكواكبي ﺍﻻﺳﺘﺒﺪﺍﺩ بأنه: (ﺗﺼﺮﻑ ﻓﺮﺩ ﺃﻭ ﺟﻤﻊ ﻓﻲ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻘﻮﻡ ﺑﺎﻟﻤﺸﻴﺌﺔ ﺑﻼ ﺧﻮﻑ أو ﺗﺒﻌﺔ).
وعند الغرب نجد كلمة ﺍﻟﻤﺴﺘﺒﺪ "despot" ﻣﺸﺘﻘﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ "ﺩﻳﺴﺒﻮﺗﻴﺲ" ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ ﺭﺏ ﺍﻷﺳﺮﺓ، ﺃﻭ ﺳﻴﺪ ﺍﻟﻤﻨﺰﻝ، ﻣﺘﺠﺎﻭﺯﺓ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻄﺎﻕ ﺍﻷﺳﺮﻱ، ﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻟﻜﻲ يصبح ﻣﺼﻄﻠﺢ ﺍﻻﺳﺘﺒﺪﺍﺩ يطلق ﻋﻠﻰ ﻧﻤﻂ ﻣﻦ ﺃﻧﻤﺎﻁ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻜﻮﻥ ﻓﻴﻪ ﺳﻠﻄﺔ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﻋﻠﻰ ﺭﻋﺎﻳﺎﻩ ﻣﻤﺜﻠﺔ ﻟﺴﻠﻄﺔ ﺍﻷﺏ ﻋﻠﻰ أبنائه.
وللأنظمة الاستبدادية آليات تضعها لتوطيد السلطة المطلقة، وهي أربعة:
- ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ: يعتمد على صورة القفز إلى الحكم قهرا سواء عن طريق انقلاب، أو تزوير لإرادة شعب، فالغاية واحدة وهي الاستبداد وإن اختلفت الوسائل التي تُفضي إليها، مع نقض سيادة القانون، والقَضاءِ على استقلالية القضاء وحصره لدى بطانة السوء التي لا تنكر منكرا ولا تأمر بمعروف، إضافة إلى قمع حريات الرأي.
- ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ: ومن أبرز مظاهره الاعتماد على العسكر وصرف المبالغ الهائلة عليه لضمان ولائه، إضافة إلى الإسراف والبذخ في غير مُبتغاه.
- ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﺍﻟﻘﻀﺎﺋﻲ: وهو من أعظم أنواع الفساد وأفْظَعِها لما يترتب عليه من ﺗﻌﻄﻴﻞ للعدالة .
- ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﺍﻹﺩﺍﺭﻱ: ﻭﻣﻦ أبرز أنواعه فساد الشرطة، التي كان من أصلها مراقبة الشأن العام وإصلاحه اقتداء بواضعها الفاروق الذي أنشأ #الحسبة في خلافته الرشيدة لذلك، لكن الأنظمة المستبدة تقلب الموازين في وظيفتها فتستعملها في القمع بجميع أنواعه ليضمنوا الأمان على كراسيهم...أضف إلى ذلك ﺍﻟﻤﺤﺴﻮﺑﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻌﻴﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ...إلخ.
والمتأمل في حال بلادنا اليوم يجد أن النظام الحالي قد اتخذ كل الآليات التي سردناها آنفا وجعلها واقعا مُعاشا لا يُسمح لذي بصيرة أن ينقده أو يقدم حلا للوضع الراهن لا سيما غيره.
فهل من حل بعد؟ أم أن الأمور ستزداد سوءا على ما كانت عليه؟
من أجل فتح مستقبل جديد كان من المفترض أن يتركه هذا النظام لغيره باعتباره حقا له.