شكل العقد الأخير من عمر الدولة الموريتانية منعطفا حاسما للانطلاق نحو تأسيس الجمهورية الثالثة التي سترى النور خلال الأيام المقبلة، حيث شهد البلد قفزة نوعية نحو الحداثة التي تجلت في ضبط الحالة المدنية وتعزيز البنى التحتية وتوعية المجتمع ومكافحة الفساد، وصولا إلى تعديلات دستورية ربطت ماضي البلد المشرق بحاضره السائر بخطى ثابتة نحو مستقبل واعد، ليضع البلد قدميه برسوخ وشموخ على أرض الجمهورية الثالثة ذات العلم والنشيد الوطنيين
المتصالحين مع ماضي المقاومة ضد المستعمر، والمستشرفين لآفاق العزة والكرامة والبناء.
لقد شهدت موريتانيا في ظل الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز من دفع عجلة التنمية ما لم تشهده خلال نصف قرن من الاستقلال، وهو ما لم يكن ليتحقق لولا الإرادة القوية التي يتحلى بها الرئيس لنقل الإصلاح من مجرد ادعاء لدى الأنظمة السابقة إلى واقع يتكئ على بينات وشواهد لا تخطؤها العين في كل شبر من أرض الوطن، لتبدو اللا مركزية في أوضح تجلياتها ومنافعها التي جنى الفقراء والمهمشون في الداخل ثمارها لأول مرة في تاريخ البلد.
الحرب على الفساد:
منذ أن أعلن ميلاد نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز فجر السادس من شهر أغسطس 2008، وقام النظام الجديد برفع شعار مكافحة الفساد، حرص الرئيس على ألا يظل ذلك مجرد شعار فارغ، بل حوله إلى أمر واقع، فتمت محاسبة المفسدين من خلال الزج بهم في السجون وإجبارهم على اعادة الأموال التي سرقوها إلى خزينة الدولة، حيث لم تكن العملية انتقائية ولا تصفية حسابات، فتمت محاسبة المتنفذين والمقربين والموالين والمعارضين على حد السواء، وهو ما أنعش خزينة الدولة بمليارات الأوقية التي عادت إلى مسارها الطبيعي بعد أن ضلت طريقها في جيوب وحسابات بنكية خاصة.
لقد مكنت سياسة مكافحة الفساد من تنفيذ مشاريع هامة عل حساب نفقة الدولة دون تمويل خارجي، وذلك بعد أن كانت المشاريع مقتصرة في أحسن الأحوال على دراسات تستجدي التمويل، قبل أن يتم تحويله، بعد توفيره من قبل حكومات وبنوك دولية، إلى أملاك خاصة ينتهي المشروع معها بمكاتب مهجورة ولوحات شوارع تحوي عناوين لم تعد موجودة، وربما وهمية في بعض الحالات.
البنى التحتية:
وتنزيلا لبرنامج رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز على أرض الميدان، باتت شوارع العاصمة نواكشوط وعواصم الولايات والمقاطعات والبلديات، وحتى ما كان يعرف سابقا بمثلث الفقر، الذي أصبح يدعى مثلث الأمل، باتت أوراشا تصل ليلها بنهارها، فتم شق الطرق الكثيرة، وربطت الأحياء والمدن والولايات النائية والصحاري بشبكة طرق حديثة، لم تحلم بها الساكنة التي تعودت التهميش وتأقلمت مع رداءة الطرق وتهالك وسائل النقل.
ونزولا عند رغبة الرئيس في توفير ظروف النقل الملائمة والمريحة للمواطن الفقير، أنشأت الدولة شركة النقل العمومي التي تتوفر على أسطول من الباصات الكبيرة التي تقوم بالنقل داخل المدن بأسعار زهيدة في متناول الجميع، وعلى خطوط تصل أطراف المدن بمراكزها.
ولم تقف العناية براحة المواطن عند هذا الحد، بل ان المسافرين وجدوا ضالتهم في شركات النقل الخصوصية التي شجعتها الدولة بإلغاء جمركة باصاتها الجديدة التي باتت حائلا بين المسافرين ووعثاء السفر.
المسافرون جوا، كان لهم نصيب من عناية الرئيس محمد ولد عبد العزيز، الذي بنى أول مطار دولي في موريتانيا بمواصفات عالمية، هو مطار "أم التونسي"، والذي نقل ضوضاء الطائرات ومخاطرها من وسط العاصمة إلى خارجها، مع تعبيد طريق مزودة بالكهرباء، وجسر يمنع زحمة المرور، هو الأول من نوعه في تاريخ البلد.
وقبل ذلك تم تأسيس شركة الموريتانية للطيران، بعد أن أفلست سابقتها بسبب سوء التسيير، واقتنت الشركة أسطول جديدا من الطائرات ساهم في زيادة الخطوط التي تسير الرحلات نحوها.
وفي مجال الموانئ، تمت توسعة ميناء نواذيبو المستقل وميناء خليج الراحة، كما تم بناء ميناء تانيت وميناء انجاكو متعدد الأبعاد.
كما تم الشروع في بناء قصر للمؤتمرات قرب مطار نواكشوط الدولي الجديد.وتمت مباشرة الاشغال على أمل الإنتهاء منها خلال أشهر حيث تجري الأشغال بشكل سريع، وينتظر أن يستضيف قصر المؤتمرات الجديد قمة للأفارقة تقررت استضافتها من طرف موريتانيا.
الإسكان:
ومنذ اللحظات الأولى لوصول الرئيس محمد ولد عبد العزيز لسدة الحكم، وضع على أولويات أجندته تخطيط العاصمة والمدن الكبرى، ومنح الفقراء قطعا أرضية مسجلة بأسمائهم، والقضاء الكلي عل ظاهرة الكزرة السيئة التي نتجت عنها أحزمة بؤس في مداخل ووسط نواكشوط ونواذيبو ومدن أخرى.
لم يتأخر الرئيس في الوفاء بعهده، فبدأ الإحصاء ثم التنفيذ، وبذلك تحولت أزقة الأخبية وبيوت الصفيح إلى شوارع معبدة ومضاءة بالإنارة العمومية، وتم استحداث أحياء جديدة عرفت باسم الترحيل، ساكنتها هم أؤلئك الذين تم ترحيلهم من "الكزرات" افساحا لطرق أو ساحات عمومية أو منشآت حكومية أو صحية أو تعليمية.
كما تم بناء المستشفيات والمدارس، فضلا عن تشييد أسواق كبيرة بمواصفات عصرية لتكون بديلا عن العرض في الشوارع الذي كان سائدا وأدى لزحمة المرور وتهديد الأمن والإخلال بالمظهر الحضاري للمدن، علاوة على خطره في حالة نشوب حرائق.
الأمن والدفاع:
وتميزت فترة حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز بالتركيز على تسليح وتحديث الجيش الموريتاني الذي كان في وضعية يرثى لها منذ خروجه منهكا من حرب الصحراء قبل الحركة التصحيحية بثلاثة عقود، وهو ما أهله لضبط الحدود والاشتراك لأول مرة في مهام قتالية خارج الحدود بعضها تحت مظلة الأمم المتحدة.
ونتيجة لاهتمام الرئيس محمد ولد عبد العزيز بتطوير وتحديث الجيش، تم الكشف، خلال عروض عسكرية بمناسبات ذكرى الاستقلال، عن أسلحة حديثة ومتطورة، وعرض الجيش لأول مرة معدات تقنية حديثة، في مجال الاتصالات، والإشارة، والبحرية العسكرية، فضلا عن راجمات صواريخ، ومدفعية متطورة، وتعكس هذه الأسلحة مدى تطور المؤسسة العسكرية خلال السنوات الأخيرة، حيث أصبحت مؤسسة بمعنى الكلمة، وتمتلك الجاهزية القتالية، بعد أن تم تزويدها بالموارد المالية اللازمة، وكانت جهات غربية مختصة قد أشادت بمهنية، وحرفية، وكفاءة الجيش الموريتاني.
سلاح الجو هو الآخر عرف تطورا ملحوظا، كما باتت المؤسسة العسكرية تمتلك مدارس متخصصة، لتكوين الكادر البشرية للجيش، والأهم -يقول المراقبون - هو الإرادة السياسية التي باتت تجعل من الاهتمام بالجيش أولى أولوياتها، فالأموال التي تنفق في تطوير الجيش هي في النهاية استثمارات ناجحة، لأن الأمن لا يقدر بثمن، بحسب تعبير رئيس الجمهورية.
الحالة المدنية:
وبعد سنوات السيبة التي طبعت الحالة المدنية الموريتانية، وما نتج عنها من تجنيس للأجانب، وإقامتهم بشكل غير قانوني، ودخولهم الحدود من حيث شاؤوا ومتى أرادوا، قام نظام ولد عبد العزيز بتنظيم الحصول على الأوراق الثبوتية الموريتانية وفق نظام بيومتري حديث لم يتوفر في دول المنطقة حتى الآن.
وبفضل هذا النظام تم وضع الحد، بشكل نهائي، للفوضى التي عاناها البلد منذ استقلاله في مجال الحالة المدنية التي باتت تحت السيطرة.
المجال الصحي:
كان توفير الصحة لجميع المواطنين وتقريب خدماتها وخفض تكاليفها من أول الشعارات التي رفعها نظام ولد عبد العزيز، وقد أنجز حر ما وعد خلال فترة وجيزة، حيث تم بناء مستشفيات جهوية في مختلف عواصم الولايات وتم تزويدها بالكوادر الطبية اللازمة والمستلزمات الضرورية، بما في ذلك أجهزة سكانير للكشف الطبي، التي لم تكن ضمن مقتنيات أكبر مستشفى في البلاد قبل سنة 2008.
وأخيرا، تم تشييد "مستشفى التخصصات الطبية" في العاصمة الاقتصادية نواذيبو، الذي أصبح قبلة للمرضى الموريتانيين الذين كانوا يبحثون عن الصحة في مستشفيات الخارج، بل إن مرضى الدول المجاورة باتوا يتعالجون في نواذيبو، نظرا لجودة معدات المستشفى وكفاءة الكادر الطبي المشرف عليه.
وأصدر الرئيس أوامره بتخفيض تكاليف الاستشارات الطبية والعمليات الجراحية في كافة مستشفيات الدولة، حيث شهد القطاع نقلة نوعية لم يسبق لها مثيل منذ الاستقلال.
قطاع التعليم:
لأول مرة في تاريخ البلد يعلن رئيس الجمهورية سنة للتعليم، ويبني جامعة عصرية بمقاييس دولية، وينشئ كلية للطب خرجت أطباء، وجامعة للعلوم الإسلامية، ومدارس الاستمياز، والثانوية العسكرية، والمعاهد المهنية المتخصصة التي كان لها الدور البارز في امتصاص البطالة.
ووفقا لرؤية الرئيس الثاقبة للموازنة بين التخصصات وحاجة سوق العمل، أصبح التوجيه يخضع لمعايير دقيقة بعد أن كانت الفوضى والارتجالية طابعه المميز.
الشؤون الإسلامية:
لم يشهد العمل الإسلامي في موريتانيا خلال السنوات التسع الأخيرة من تطور واهتمام، ما شهده منذ ميلاد الجمهورية الإسلامية الموريتانية، فتمثلت إنجازات الرئيس محمد ولد عبد العزيز لصالح هذا القطاع الهام خلال الفترة الأخيرة في:
- هدم سفارة الكيان الصهيوني وقطع العلاقات معه، والوقوف إلى جانب الشعوب المسلمة أينما كانت
- توفير مرتبات لأئمة المساجد
- افتتاح جامعة إسلامية في مدينة العيون
- إطلاق محطة إذاعية خاصة بالقرآن الكريم وعلومه
- إطلاق فضائية لتدريس علوم المحظرة
- طباعة مصحف شنقيط، وهو الثالث من نوعه في العالم الإسلامي
- تخصيص مساحة كبيرة في المطار القديم لبناء أكبر مسجد في البلاد
- تنظيم مهرجان سنوي دوري لإحياء التراث الإسلامي للمدن القديمة
- الإعلان بشكل صريح بأن موريتانيا دولة إسلامية وليست علمانية
- سن قوانين تشدد العقوبة على الملحدين المتطاولين على الجناب النبوي الشريف والذات الإلهية
المجال السياسي:
رغم إصرار المعارضة الراديكالية على إنكار الإنجازات، والدفع نحو التأزيم، ووصف النظام بأبشع الأوصاف، ظلت يد الرئيس محمد ولد عبد العزيز ممدودة نحو الحوار، حيث لم يفوت فرصة دون الدعوة إليه باعتباره الأسلوب الحضاري للشراكة في النظام الديمقراطي.
وقد أسفرت تلك الدعوات عن تنظيم ثلاث حوارات، أولها كان في دكار وتنكرت المعارضة لنتائجه بعد هزيمتها في الانتخابات الرئاسية سنة 2009، وثانيها كان حوار 2011 الذي شارك فيه طيف واسع من المعارضة وأدى إلى سن قوانين ساهمت في تعزيز التجربة الديمقراطية، وقد استفادت من نتائجه أحزاب معارضة قاطعت الحوار.
أما الحوار الثالث والأخير، فكان حوار 2016 الذي كان شاملا، نظرا لحجم التمثيل الذي شمل أحزاب الأغلبية والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني والمستقلين، رغم مقاطعته من طرف ثلة من المعارضة التقليدية التي كانت رأس حربة في المطالبة برحيل النظام تأسيا بالربيع العربي.
الحوار الأخير وضع الأسس القانونية لميلاد الجمهورية الثالثة ذات العلم والنشيد الجديدين، والتي ستعزز اللا مركزية من خلال انتخاب مجالس جهوية ستفضي إلى تنمية ولايات الداخل.
ولأن الشعب هو مصدر السلطات، فقد لجأ إليه الرئيس محمد ولد عبد العزيز للاستفتاء حول التعديلات الدستورية المقترحة من قبل الحوار الوطني الشامل، والتي تم بموجبها أيضا القضاء على غرفة مجلس الشيوخ داخل البرلمان، والتي كانت تلعب دور المعطل للقوانين والمستهلك لأموال خزينة الدولة.
وخلاصة القول، أن ميلاد الجمهورية الثالثة لم يكن مجرد شعار أطلقه الرئيس محمد ولد عبد العزيز لمجرد ذر الرماد في العيون، وإنما كان تتويجا لعقد كامل من إعادة التأسيس على أسس صلبة ومتينة نقلت موريتانيا من مشروع دولة ظل يعيش خارج السياق الزمني المعاصر إلى دولة حديثة تؤثر وتتأثر في محيطها الإفريقي والعربي، وحتى العالمي.
ولم يعلن الرئيس قيام الجمهورية الثالثة حتى رسخ أقدام الدولة وفرض احترامها، فكانت قبلة العرب في أول اجتماع لهم بنواكشوط، وقبلة الأفارقة في اجتماع الاتحاد الإفريقي المقبل في موريتانيا، بعد أن تربع ولد عبد العزيز على رئاسة العرب والأفارقة ، وأدارهما بجدارة و بحنكة نالت إعجاب الجميع.