ارتبطت فكرة الاستقلال في وجدان الموريتانيين تاريخيا، بالاستقلال السياسي عن الاحتلال الفرنسي الذي اشرف عليه الأب المؤسس المختار ولد داداه رحمه الله (1924 ـ 2003) في 28 نوفمبر 1960، الذي قاد مرحلة التأسيس لبناء دولة عصرية بمؤسسات حديثة بما في ذلك وضع أول نوات لجيش نظامي مهمته الدفاع عن الحوزة الترابية للبلاد فضلا عن بقية المؤسسات الأخرى الإدارية والبيروقراطية.
أصبحت الفكرة واقعا وحدثا هاما يخلده الشعب كل عام بإجماع، ومصدرا للاعتزاز والفخر بتضحياته ومقاومته الثقافية والعسكرية
التي قدم من أجلها النفس والود والمال، حتى قبل أن يوجد جيش أو دولة بالمعنى الحديث. انتهت مرحلة التأسيس بما فيها من إيجابيات وسلبيات بأول انقلاب عسكري بعد حرب الصحراء 1975 التي لم يكن لموريتانيا فيها من ناقة ولا بعير، ودخلت البلاد فترة من الأحكام العسكرية، وهيمنة مطبقة لنخب عسكرية أغلبها مسيس بحكم غياب التكوين العسكري (معلمين، أساتذة..إلخ)، وكذلك الثقافة المدنية نظرا لغياب تقاليد الدولة تاريخيا واستمرار النمط السلطوي البدائي.
ورغم أن المختصين في علم العلاقات المدنية العسكرية يفترضون أن الجيوش التي ترتبط في نشأتها بالدولة المدنية تكون غير مسيسة وحيادية، وقالبة لأن تكون احترافية ومهنية، غير مكترثة بالصراع السياسي الذي هو حالة صحية وضرورة اجتماعية، إلا أن هذا الأمر لم يكن لينطبق علينا بحكم الفكرة السخيفة/ التبريرية التي تقول بأن الشعب غير مؤهل لحكم نفسه وبالتالي ينبغي أن يحكم وهو أمر لم يحدث منذ الديمقراطية الأثينية.
لا أريد أن أغوص في هذا النقاش السخيف الذي يبرر الانقلابات العسكرية، والذي يستند على أفكار أخرى ثقافية مثل، فكرة "التغلب" سيئة السمعة التي لا تخضع إلا لقانون الغاب، أو فكرة "الفتنة" الأكثر سخافة التي تمنع الشعوب من المطالبة بحقها في الحرية والكرامة، أو فكرة "الخروج" المريضة. فعلا هذه الأفكار السخيفة لن يعثر عليها أحد في أي شعب من العالم مهما كان تخلفه وتراجعه، وهي من أهم مصادر الشرعية والاستمرارية للأحكام غير الديمقراطية في مجتمعاتنا التي ينبغي أن تموت لكي يعيش الزعيم الذي ينجز ويصنع المعجزات لخلاص شعبه المسكين.
إنما أسعى لأبينه أن فكرة الاستقلال لم تعد كما هي. وعلى منظري التغلب والفتنة والخروج أن يستمروا في وأد المستقبل. فعلى الأقل نسبة كبيرة من الشعب ترفض هذا الاستقلال، وهذا ما لم يحدث قرابة 39 عاما من الحكم العسكري، فلم يجرؤ أي رئيس على تغيير العلم الذي لم يعد مجرد رمز وطني، بل ثقافة ومكون من مكونات الذاكرة الجماعية، مثل ذلك النشيد ونغماته وكلماته التي تعودت عليها الأجيال جيلا بعد جيل، فضلا عن مؤسسة محترمة أثبتت بجدارة وطنيتها وحبها لهذا الوطن وهي مؤسسة مجلس الشيوخ الأجلاء، ولعل خير دليل ما قام به هؤلاء من عمل يرقى إلى أسمى أساليب التضحية والنضال بعد تحمل السجن وأبشع أنواع إهانة كرامة الإنسان والإذلال، وكان بالإمكان أن يسيروا مع القطيع ومصالحهم مضمونة.
إن فكرة الاستقلال في حد ذاتها لدى جل الموريتانيين اليوم تبدو فكرة ملتبسة وبحاجة إلى نقاش جاد واهتمام أكثر جدية؛ ذلك أن ثقافة القرن الحادي والعشرين تقوم على منع الاحتلال التقليدي الذي كانت تقوم به الدول، منذ أن تمت تصفيته في القرن المنصرم ووضع حد لخروقاته غير الإنسانية. وإلا فما معنى أن يقوم النظام الآن بالدعاية لمرحلة تأسيس جديدة؟، بل إنه ما معنى الدعوة لمرحلة تأسيس جديدة؟، إن لم تكن بعد تحرر من احتلال ماثل، أو انتقال من نظام غير ديمقراطي إلى نظام ديمقراطي؟.
الاستقلال رقم 39 الذي يُنظّرُ له بعض القبليين والجهويين والمرتزقة، وكما يقولون دون خجل سيضع حدا لمرحلة ويعلن بداية أخرى، لكنه يضع حدا لمرحلة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تمثل كل الموريتانيين. وهي بداية لم تكن موفقة على الإطلاق ولا تحمل معها من بشائر غير النكوص والتنكر للجميل. حتى الشعب نفسه لم يعد من يقوم بالانجازات، بل الزعيم هو الذي ينجز ويمنع ويمنح ما يشاء حتى عيد الاستقلال، إنه اليوم، أي الشعب مثل الطفل الذي يأتي إلى الدنيا طفلا ويرحل عنها طفل. يبقى أن نتسائل عن الحكمة من منح هذا الاستقلال لأهل كيهيدي بالتحديد؟.