كيف ينهض بلد لا يعد في مسرحه السياسي المذبذب شخصية واحدة وازنة بفكرها المتنور و حضورها اللافت و خطابها المحمول و تأثيرها المشهود و تعلم أن هناك من الرجال من ننساهم بدون ندم و منهم من يبقى ذكره راسخا في الأذهان إلى الأبد ؟
و كيف له أن يتحرر من قيود الظلامية الاجتماعية و مثقفوه غارقون في الأخذ فكرا و سلوكا باعتبارات الماضي بعيدا عن حقل العطاء و مستوجبه مما غرفوا من جملة المعارف و العلوم و الفنون و التقنيات؟
و كيف له أن يشهد نهضة حديثة و لا مخططين له يعدون السياسات الاقتصادية الناجعة يُستغل لها ما تملكه البلاد من مقدرات هائلة و متنوعة؟
و كيف له أن ينعم باستقلاليته من الصناعات المحلية على غرار دول الجوار و لا رجال أعمال فيه يهتمون بغير الجمع و التكديس و التحصيل بالتواطئ مع كبار مسؤولي تسيير المال العمومي الذين لا هم لهم سوى تشريع النهب و الفساد بكل الطرق و الوسائل على حساب تنمية البلد و نهضته؟
و كيف له أن يساير تطور الأمم و شعبه يمتهن "مد اليد" و "نبذ العمل" و تعتمد غالبيته أساليب المحاباة و التبعية و التملق و تستجيب لاشتراطات قيود الماضي؟
و كيف له أخيرا أن يصحح بلد مساره المتعثر في ظل غياب هؤلاء الأربع؟
وزراء بوزن الريشة
في الحلبة قلة من الوزراء المتماسكو الشخصية بقوة، المستقيمو الوقفة في ثبات، الشم الأنوف من الطراز الأول. و في الحلبة أيضا كثرة بالغة من الوزراء كالسلاحف بطيئو الحركة يوارون رؤوسهم ما بين بطونهم و ظهورهم كلما توجب عليهم رفعها، يخافون ظلهم، يقتحمون حمى الضعفاء و يحنون ظهورهم لسياط الأقوياء، لا يحترمون وعدا قطعوه على أنفسهم و لا يلتزمون بعهد كان منهم لضعف يعتريهم، و لا يؤدون واجباتهم الوطنية بجدارة الراعي الأمين و لا الاجتماعية في ظل إلزامية المعيارية الاجتماعية المتداولة من خفة و هبوط و انحسار عن ثلاثي : سمو النفس و عزتها و إبائها.. ثلاثي لا يليق إلا بالوزراء الشرفاء... وحدهم.
أمناء عامون أشد فتكا من الطاعون
في الحلبة قلة من الأمناء العامين "حراس القطاع المفترضون" المدركون قدر مسؤوليتهم الجسيمة، الواعون لحقوق رعيتهم الإدارية و المالية، الحريصون على الأداء المطلوب ضمن المسؤوليات النشيطة، المتغافلون بحزم عن تلك العديمة التي تفرزها المحاصصات "السياسوية" و "الوجاهاتية السيباتية" التي تغص بها حتى الخنق ردهاتُ و كواليس القطاعات و تخلط أوراقها الميدانية... و في الحلبة أيضا كثرة من الأمناء العامين الذين لا هم لهم سوى تسخير الوظيفة الرهيبة المهابة لإمساك صاحبها كل الخيوط التسييرية و العملياتية، فيُعملون كل متاح وظيفتهم و وجاهة جنابهم الذي يخافه حتى الوزراء الضعفاء، و يسخرون كل نفوذهم و جهدهم للاستفادة المادية و جني فوائد الوساطة التي لا ينقطع حبلها باتجاه شبكة كل الوزارات الأخرى لتشغيل ذويهم و تسوية أو تحسين أوضاعهم و لمآرب أخرى يضيق المقام عن ذكرها.
عندما يتعثر التسيير
عجيبة هي العلاقة الحميمة التي تنشأ عند أول وهلة بين بعض الوزراء الذين تجيء بهم روافد خطوب السياسة العاثرة و بين الأمناء العامين ذوي الدم الساخن و مديري الإدارة و المالية من ذوي الدم البارد في القطاعات لتتحول بعد مدة قريبة إلى علاقة أحلاف قبلية و جهوية أو طبقية و سياسوية لتنسحب سريعا ردود أفعالها النفعية المغتصبة على المحيطين و تتقوى الأواصر الجديدة و القديمة أحيانا فتحمل اسما مستحدثا يضرب أحيانا عرض الحائط بعلاقات ماضية مضطربة أو يقوي أخرى كان لها من وجود على خارطة تذبذب العلاقات الاجتماعية. و بالطبع فإن مركز و محرك هذه العلاقة هو تسيير المال العام و الوظائف و الأشخاص الذي يتضرر معه و به الضعفاء و لو كانوا "ألمعيين" و يقوى آخرون و لو كانوا لا يحملون ما يفيد القطاع و خدمة الوطن. فهل الوضع بهذا صحيح؟ و هل يستمر على هذا النسق سبعا و ستين عاما مقبلة؟
عندما يعتنق محامون عفن السياسة
في البلد اختلط الأمر على بعض المحامين الذين لم يعودوا يميزون بين مقاصد القانونين الوضعي و الشريعة الإسلامية فباتوا يركبون بلبوس السياسة المضمخ بحس الطمع الأعمى و الانتهازية المفضوحة كل الموجات التي يحركها في كل الاتجاهات هيجان بحر التشكل العصي و التحول في حضن "فوضاء" صراع العادات الموروثة عن "السيبة" و تعثر خطى "المدنية" المحاصرة. و هم المحامون الذين لا يزالون قلة في جسم المحاماة على الرغم من قوة الظهور و النفوذ و قد عرت طموحاتُهم "السياسوية" خلال الوضعية القائمة خروجهَم على لب المهنة المبني في أساسه على سمو النفس و صدق العمل و روح الاستقامة و السعي إلى تحقيق العدل و نشره.
إذا لم تستح فافعل ما شئت
هل تمثل أهل هذا البلد يوما و حقا قول أحد شعرائهم عن معشر تالأجداد:
قوم لهم شرف العلى من حمير... وإذا دعوا لمتونه فـهمُ همُ
لما حـووا عـلياء كـلِّ فـضيـلةٍ ... غلب الحياءُ عليهمُ فتلثموا
أم أنه بإسقاط العمامة حقيقة و مجازا تخلى أهل البلد عن أهم و آخر واق لديهم من الدناءة و النفاق و اللا مروءة؟ هو الأمر يبدو كذلك بكل تجلياته في معاملاتهم و الحرص فيها على الغلبة في كل ناد و مضمار.. السياسة حرب للكسب السلطوي و شل الآخر و لو ديس الوطن، و تحصيل المال بكل السبل الغير مشروعة و لو استدعى الأمر أن تطمر النوايا تحت أكوام من المكر الاجتماعي المنمق و الإفتاء الديني المحرف على خلفية النفوس الخردة المبتلاة بحب الدنيا و خبث الطوية.. الغني لا يكترث لحصول العلم عند الآخرين بدنس مصدر ماله، و السياسي يصف غيره بالأحمق إذا لم يتفهم نفاقه الذي أوصله إلى مبتغاه من الوظيفة و المال، و المثقف ـ و أنى له أن يكون كذلك ـ يلبس ألف ثوب و ثوب ليتلقى بقايا مآدب اللئام.. يتسابقون إلى الحفلات التي لا معنى أو بعد لها إلا أنها تجمع حولها من الأغنياء و وجهاء الطبقية البغيضة و سدنة تسيير المال العام فيسهل التقرب منهم و الإبداء لهم الولاء الغرضي المرحلي... إلى حين.
ترى بأي طاقة نسير؟
المتتبع لأحوال مسيرة هذا البلد التنموية و منذ الاستقلال إلا قليلا لا بد أن يندهش من الفارق الكبير الحاصل بين مستوى الحاجة العظيمة إلى البنى التحتية العملية و بين ضعيف مستوى الاستجابة للأداء المناسب. فبقدر ما هو صارخ المطلوب للديناميكية التي يمليها واقع المتطلبات التنموية الملحة بقدر ما هي ضعيفة الاستجابة من لدن الطاقات (الوطنية؟) التي يكبلها الكسل "الإرادي" و التهافت "المحموم" على المال العام بتسهيل الوصول إليه من خلال وسائل بدائية/محدثة التي منها و على رأسها فرض "المحاصصة" القبلية و الجهوية و الطبقية و السياسوية و العصاباتية دون مقابل في جهد البناء أو خلق إرادة تحسين و دفع حالة البلد إلى الالتحام بعربات قطار ركب الأمم. فكم من مهندس و فني في مختلف الاختصاصات أنفقت عليه الدولة أموالا طائلة ولى بعد التخرج تخصصَه الدُّبرَ إلى "نادي" الوظائف التسييرية المريحة "السهلة" و الإدارية الميسرة التي تقربه زلفى إلى أساطين التسيير"الجزافي" و من فضاءات النهب الميسر و الفساد المشتهى، و تبعده بالمرة تكرما عن ساحات الجهد العضلي و العناء الفكري.. و من بعد ذلك الطوفان؟
سب الغير و التقوقع في حضن العقد
فيما يظل الفارغون فينا من حماس التنوير و حماس السعي إلى التنوير و الانفتاح، بعيدا عن دوام التقوقع في غيابات جب التخلف الفكري و ظلامية الكهوف، يعيبون فرنسا على ماضيها الاستعماري و يتمثلون ناكرين و جاحدين نجاحاتها العلمية و الفكرية و الفنية و السياسية تظل هي تبهر بإصرارها على أن تظل دولة عظيمة و أمتها أمة متألقة و حضورها العلمي و الثقافي المعطاء. في دبي يذيع صيت متحفها "اللوفر Le Louvre" و باريس تحتفل بالذين ماتوا في معركة بإحدى القمم في الألساس Alsace فرنسيين و ألمان و تخلد الحدث بوسائل العرض المتقدمة الرائعة على جدران "نوتردام دى باري Notre Dame de Paris" في إبهار و عرض لتاريخ عريق و ناصع. و ينطبق هذا الحماس على الصينيين و الروس و الأمريكيين و المصريين و التونسيين و المغاربة و السنغاليين و غيرهم بعد تخلي هذه الشعوب و قادتها و نخبها عن عقد الماضي و آلامه و توهها إلى العمل على بناء الحاضر و إعداد المستقبل و بشاراته بالجد و العلم و العزة و الترفع عن نواقص الضعف و الشعور الدائم بالقصور و الغبن، و برفض الاستمرار في لعب دور الضحية.