تقديم كتاب المقاومة المسلحة في منطقة بتلميت من 1854 إلى 1932 / د.أحمد ولد المصطف

يعتبر البحث عن الوقائع التاريخية و نفض الغبار عنها المرحلة الأولى التي لا غنى عنها لكتابة التاريخ أيا كان مستواه: شخصي، محلي أو وطني. و تعتبر هذه المرحلة مفتوحة أمام مختلف الفاعلين في تشكيل الذاكرة الجمعية لمجتمع ما، إذ بالإمكان لأي كان أن يصبح مصدرا للمعلومات التي قد تفيد الباحث أو الدارس في هذا المجال. بعد جمع المعلومات عن الوقائع، يصبح بالإمكان الحديث عن مرحلة كتابة التاريخ،  التي تتطلب بدورها متخصصين يتولون تحليل و نقد و مقارنة هذه الوقائع

 بمختلف أبعادها المكانية و الزمانية و الإقليمية و الدولية لاستخلاص الحقائق و الدروس.

في هذا الإطار، أود بادئ ذي بدء أن أشير إلى أن  العمل الحالي يندرج في إطار المرحلة الأولى، أي مرحلة البحث عن الوقائع و محاولة التأكد منها.
بخصوص موضوع الكتاب موضوع هذه الندوة، فإنه يتعلق بمحاربة الفرنسيين من قبل ساكنة منطقة بتلميت بمفهومها الأوسع، و ذلك ابتداء من سنة 1854 و حتى سنة 1932 أي طيلة حرب افديرب ضد إمارتي الترارزة و البراكنة و حتى المواجهات المسلحة التي تمت بين الفرنسيين أثناء فترة الاستعمار الفعلي لأرض البيظان ، و  بالأخص مع بداية 1903 .
من حيث منهجية البحث، تم تقسيم الدراسة الحالية إلى جزأين.  تناول الجزء الأول حرب   منتصف القرن التاسع عشر، أو حرب الصمغ العربي "العلك"، مركزا على المحطات البارزة لهذه الحرب و دور الفاعلين الرئيسيين فيها، مع الاهتمام بمؤتمر تندوجه المنعقد في يناير 1856 و قراراته و دوره في مصالحة و توحيد صفوف أمراء الترارزة و البراكنة و آدرار لمواجهة المخاطر الخارجية و ذلك بفضل جهود الشيخ سيديا الكببر. في هذا الإطار،  تم ذكر بعض المعارك الهامة في هذه الحرب و خصوصا تلك التي شاركت فيها المجموعات المنحدرة من بتلميت، كمعركة الرڭبة التي وقعت يوم 6 يونيو 1856 ضد معسكر أمير البراكنة حينها امحمد ولد سيد ولد آغريشي، و أقر فيها الفرنسيون بالهزيمة، حيث تذكر بعض المصادر و الروايات مقتل زهاء خمسة و عشرين عنصرا منهم، مع العديد من الجرحى، و عزوا هذه الانتكاسة إلى حضور الشيخ سيديا لهذه المعركة و فعالية القوة البركنية المشاركة فيها، و بالأخص غَزِّ أولاد أحمد. بعد انتهاء هذه المعركة أفتى السيخ سيديا الكبير بدفن قتلاها من البراكنة و من منطقة بتلميت بثيابهم، إذ اعتبرهم شهداء. كان من بين الشهداء رجال عديدون، احتفظت الذاكرة الشعبية ببعضهم و منهم أحمدَّ ولد المعزوز ولد جدُّ، كذلك معركة بوطريفيَّ التي وقعت شمال بحيرة الركيز في فبراير 1856 مباشرة بعد عقد مؤتمر تندوجه، كعملية استباقية من قبل افديرب ضد الترارزة، و قد كان من بين المتميزين في هذه المعركة المختار، الملقب منيار، ولد محمد ولد سيد أحمد. كذلك تم تناول مختلف مراحل هذه الحرب و الأضرار التي لحقت بالسكان جراءها و كذلك خسائر الأطراف المتحاربة، و ذلك اعتمادا على وثائق ربما تم الاطلاع على بعضها لأول مرة وقدمت تفاصيل سير العمليات بشكل مفصل. كما أوضحنا في هذا الجزء أن استعمار الضفة اليمنى لنهر السنغال أو اتراب البيظان قد أصبح مسألة وقت منذ انتهاء هذه الحرب التي كانت نتائجها تميل لصالح الفرنسيين، و بالأخص فرض الفرنسيين التخلي عن الضرائب العرفية التي كانت تدفع للأمير و بعض أفراد الأسر الأميرية و مركزة هذه المكوس في إتاوة عرفية تمثل نسبة 3 % من كميات الصمغ التي تباع للفرنسيين. اعتبر هذا البند من الاتفاقيتين الموقعتين بين أميري الترارزة، محمد لحبيب ولد أعمر ولد المختار ولد الشرقي امحمد ولد سيد، على التوالي في مايو و يونيو 1858 أنه السبب الرئيسي في تذمر بعض أبناء عمومة و إخوة بعض الأمراء، مما أدى إلى انتشار ظاهرة  الاغتيال أو"اْلغَدْرَة" في إحداث التغيير على رأس السلطة في الإمارة. هذه الوضعية الجديدة مكنت الفرنسيين من إضعاف الإمارات المصاقبة للنهر، و ذلك تمهيدا لوضع اليد عليهما لاحقا عند ما يتبلور المشروع الاستعماري لأرض البيظان.
أما الجزء الثاني فقد خصص لموجة الاستعمار الفرنسي الأخيرة و مواجهتها، موضحين أن الاستعمار الفرنسي الفعلي لبلدنا بدأ في مرحلة أولى في المناطق التي ليست فيها سلطة أميرية، كبعض مناطق غورغول و غيدي ماغا ابتداء من سنة 1891 و الحوضين منذ مطلع سنة 1899 دون أن يصاحب ذلك وجود عسكري دائم في هذه المنطقة الأخيرة، أما المرحلة الثانية من الاستعمار الفرنسي الفعلي فكانت موجهة ضد الإمارات البيظانية القائمة و قتها (الترارزة، البراكنة، تغانت و آدرار) و التي تأجلت عن المرحلة الأولى بسبب المعارضة الشديدة التي كان يبديها التجار الفرنسيون في سينلوي للمشروع الاستعماري الموجه ضد الضفة اليمنى لنهر السنغال، و حتى معارضة بعض حكام غرب إفريقيا لهذا التوجه، كموقف شودييه  Chaudié  مثلا.
ابتداء من نهاية 1902 بدأ ڭزافييه كوبولاني في تنفيذ مشروعه الاستعماري الذي وضعه أساسه النظري في تقريره عن مهمته لدى البيظان في الحوضين و الذي رفع إلى حاكم السودان الفرنسي و إلى وزير المستعمرات في الحكومة الفرنسية. انقسمت الرؤى حول هذا الموضوع بظهور طرفين، أحدهما مهادن، يستند في طرحه إلى موقف فقهي يرى بأن الأولوية بالنسبة للساكنة و البلد هي بسط الأمن و وقف  الاقتتال الداخلي بين مختلف المجموعات و التناهب، في حين ارتآى طرف آخر ضرورة رفض الاحتلال الفرنسي و مواجهته بشتى الطرق ، بما في ذلك المواجهة المسلحة معه.
في إطار توضيح وجهة نظر الطرف المهادن، أوردنا فتوى الشيخ سيديا باب التي تعتبر الأساس الفقهي ـ الشرعي لهذا التوجه في منطقة بتلميت و الترارزة في العديد من مناطق البلد الأخرى، كما بينا أن المهادنة تأسست أيضا على جملة من المبادئ تحدد العلاقة بين الإدارة الفرنسية و الطرف المهادن،  كاحترام الدين الإسلامي  و تقاليد و ثقافة المجتمع و التشاور في الأمور العامة للساكنة. هذه المبادئ سمحت بتسوية العديد من القضايا المتعلقة بالمجاهدين ، فتم "العفو" عن العديد منهم، كما استطاع الكثير منهم استرجاع مكانته السياسية أو بعضا منها و ذلك بفضل جهود رائد هذا الاتجاه الشيخ سيديا باب، و الذي خصصنا مبحثا لتناولها.
بخصوص وجهة النظر الرافضة للاستعمار الفرنسي في المنطقة المدروسة، فقد جسدتها قيادات عسكرية و دينية مرموقة منحدرة من هذه المدينة تبنت موقف جهاد الفرنسيين، كالمختار أمُّ ولد امحمد ولد الحيدب، و الكوري ولد امبارك ولد محمد ولد سيد أحمد و الشيخ سيد أحمد البكاي ولد الشيخ المصطف ولد العربي و أخوه نزيلُ و  الشيخ محمد لمجد ولد العالم و محمد ولد احويرية و أحمد سالم ولد المختار أمُّ، و غيرهم.
لقد انتظمت مقاومة الفرنسيين الثانية في منطقة بتلميت في ثلاث جبهات. كانت الجبهة الأولى، جبهة داخلية مثلتها العناصر التي خاضت أولى العمليات العسكرية ضد الفرنسيين في الترارزة: معركة سهوت الماء في 16 يونيو 1903 بقيادة المختار أمُّ و لد الحيدب و بمؤازرة الكوري ولد امبارك المذكورين، إضافة إلى عناصر فاعلة أخرى. في هذه المعركة خسر الفرنسيون أول قادتهم و هو الرقيب الدركي شارترون، كما استشهد ثلاثة من المجاهدين.  بعد ذلك بأشهر وقعت معركة بوطليحية  التي استشهد فيها المختار أمُّ شمال شرق بتلميت. بعد مقتل المختار أمُّ تولى قيادة هذه المجموعة الكوري ولد امبارك الذي شارك في معركة النيملان في 25 أكتوبر  1906 و واصل جهاده إلى أن توفي سنة حوالي 1907 في غلب آدمار بالصحراء الغربية. و في غرب بتلميت، و عند بئر اندومري تحديدا جرت محاولة تضليل فرقة يقودها النقيب افرير جان و ذلك من طرف أحد رعاة البئر المذكورة، فتم إعدامه، دون محاكمة، من قبل القائد الفرنسي المذكور و ذلك يوم 24 مارس 1904على أساس أن ما قام قد تم تكييفه من قبل افرير جان المذكورعلى آنه جريمة حرب. كذلك و في إطار هذه الجبهة الداخلية، تمكن نزيل ولد محمد لمين ولد الشيخ المصطف من تضليل مفرزة فرنسية بالقرب من بئر الله شمال شرق بتلميت، حتى هلك معظم أفرادها عطشا،  إذ خسرت ضابط صف و 19 مجندا إفريقيا، إضافة إلى وفاة ثمانية من الڭوم المحليين، و هي أكبر خسارة تكبدها الفرنسيون في صفوف عناصرهم الأوربية و مجنديهم الأجانب في أرض الترارزة.
أما جبهة المقاومة الثانية، فكانت جبهة أحمد ولد الديد و أخيه سيد ولد سيد التي انضم إليها العديد من العناصر الفاعلة المنحدرة من منطقة بتلميت بفعل العلاقات الخاصة التي تربط هذين الرجلين بساكنة منطقة بتلميت، سواء مع عمهما سيد محمد ولد سيديا ولد الطالب ولد الهيبة  أو مع أسرتي أهل الشيخ سيديا و أهل محمد ولد سيد أحمد، و التي فصلناها في محلها من هذا البحث. خاضت هذه الجبهة معارك نوعية ضد الفرنسيين و كبدتهم فيها خسائر هامة، اعڭيلة الرفڭة التي وقعت في 16 مارس 1908 بقيادة مشتركة بين الأمير أحمد ولد سيد أحمد ولد عيده و سيد ولد سيد.
و كانت هذه الجبهة تتحرك في مجال  آوكار و أمشتيل و أغان شمال بتلميت و حظيت بدعم واسع من ساكنة بتلميت و من بعض أعيان المجموعات التي تقطنه، كدعم كل من عبد اللطيف ولد عبد الرحمن و المختار ولد محمد ولد اعبيدي و عبد الجليل ولد لحبيب ولد الفلالي و غيرهم.
شارك من المنحدرين من منطقة بتلميت  في معركة العزلات (جنوب ألاڭ)، بقيادة أحمد ولد الديد و التي وقعت بتاريخ 4 يونيو 1908 ، كل من:
أحمد سالم ولد المختار أمُّ ولد الحيدب؛
ـ محمد ولد احويريه؛
ـ سيد ولد سيد محمود؛
ـ محمد ولد سيدنَّ، المعروف بمحمد ولد كمبه؛ 
ـ اعل سالم ولد محمد امبارك؛ 
ـ أحمدو ولد الكايد؛ 
ـ المختار ولد اعبيد الله؛ 
-احمد ولد صمب ولد اعلي؛ 
ـ سيدي سالم ولد اعبيد الله ولد أحمد.
كما شاركت عناصر فاعلة من المجموعات القاطنة في بتلميت في معركة لڭويشيشي، التي وقعت يوم 28 نوفمبر 1908 و كان قائدها أيضا أحمد ولد الديد، من بينهم:
أحمد سالم ولد المختار أمُّ
ـ محمد ولد ببكر ولد احويريه
ـ سيد ولد سيد محمود
ـ المختار ولد اعبيد الله
ـ أحمد ولد عثمان 
ـ اعل سالم ولد محمد امبارك 
ـ ابراهيم ولد أعمر ولد ببكر  
ـ أحمد ولد الكايد
ـ أحمد ولد صمب ولد اعل 
ـ سيدي سالم ولد اعبيد الله ولد أحمد 
ـ محمد ولد اعل ولد السالم.

أما الجبهة الثالثة فكانت جبهة الشيخ ماء العينين و أبنائه و التي التحقت بها عشرات القيادات و أعداد هامة من المقاتلين المنحدرين  من بتلميت شاركوا في العمليات القتالية التي كانت تتم ضد الفرنسيين في العديد من مناطق أرض البيظان، تميز منهم الكثيرون في تلك المعارك استشهد البعض و جرح البعض الآخر، و من بينهم، على سبيل المثال لا الحصر:
ـ الشيخ محمد لمجد ولد العالم
ـ الشيخ سيد أحمد البكاي ولد الشيخ المصطف 
ـ السيد بن المختار ولد الطالب ولد الهيبة
ـ سيديا ولد محمد فال ولد انداري
ـ أبناء اليدالي ولد محمد محمود ولد ابراهيم ولد مولود: الشبيه و ماء العينين و محمد فاضل الذين استشهدوا كلهم في معركة "سيدي بوعثمان" شمالي مراكش في 6 سبتمبر 1912
ـ أسند ولد محمد عبد الودود
ـ أحمد محمود بن آڭه
ـ ابنا الخطاط :محمد ساد و محمد، اللذان استشهدا في معركة سيدي بوعثمان شمال مراكش بقيادة أحمد الهيبة يوم 6 سبتمبر 1912.

كذلك شاركت مجموعة من ساكنة  بتلميت إلى جانب ساكنة آدرار في مقاومة الفرنسين، من هؤلاء:
ـ الشيخ محمد ولد سيد حيبل ولد محمول الفغ أمير
ـ  أخيار أهل ولد عبدي ولد المبارك
ـ محمد عبد الله ولد أحمذيَّ العالم و الشاعر الكبير و أول إمام لمسجد في بتلميت و الذي شارك في معركة أماطيل ضد العقيد غورو و خلد ذلك في إحدى قصائده الرائعة.

كذلك تم ذكر آراء بعض العلماء الذين عارضوا جزئيا أو كليا الاستعمار الفرنسي، كمحمد اليدالي ولد أحمد محمود، و محمد ولد الشيخ سيديا باب و أحمد ولد الشيخ سيديا باب و محمد عبد الله، الملقب باهي، ولد السيد ولد أوداعه و هارون ولد الشيخ سيديا باب و آخرون.
تم التنبيه أيضا إلى أهمية و عمق العلاقات الاجتماعية و الوشائج بين بعض ساكنة بتلميت و أهل الشيخ ماء العينين، و التي تجسدت في زيجات مشتركة في الاتجاهين بين بعض الأشخاص المنحدرين من منطقة بتلميت و بعض أعضاء أسرة أهل الشيخ ماء العينين. 

في الختام، أعتقد أن العمل الحالي سيكون قد نجح إن هو أضاف لبنة جديدة في مجال جمع الوقائع التاريخية عن مرحلة هامة من تاريخنا المشترك، ألا و هي مرحلة حروب الاستعمار الفرنسي في القرنين التاسع عشر و العشرين، إلا أن المزيد من البحث لا يزال مطلوبا لفهم و كتابة تاريخ هذه الحقبة بطريقة تضمن للأجيال اللاحقة قراءة هذا التاريخ و فهمه فهما صحيحا. كما أني أعتقد أن أهم درس يمكن استخلاصه من هذا التاريخ هو التمسك بأهم إنجاز حققناه في تاريخنا ألا و هو إقامة الدولة الوطنية ومؤسساتها الجمهورية التي علينا أن ندافع عنها و نحميها بقوة القانون ونسعى إلى كل ما يكرس بقاءها و استمراريتها و تطويرها نحو الأفضل.


المؤلف

28. نوفمبر 2017 - 10:08

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا