تشكل الانطباعات الذهنية والمقولات المسبقة أهم أعداء الموضوعية، وفِي حالات كثيرة يجد الناس أنفسهم أسرى لهذا المنحى الذهني والنفسي لأسباب مختلفة، بعضها متعلق بعدم الاستعداد لدفع كلفة العلم الصحيح بالأشياء مهما كانت كلفة يسيرة كالأطلاع المباشر على الحقائق واطراح الظنون، وبعضها متعلق بالاستسلام المرَضي للمقولات الظالمة عن الطرف الآخر، خصما كان أو لم يكن، وفِي هذا الإطار العام فهمت ترديد بعض الأصدقاء لإحدى "الأساطير القديمة"
المتعلقة بغياب البرنامج الاقتصادي لدى تواصل، تذكرت أن هذه كانت إحدى المقولات الأثيرة لدى خصوم الإسلاميين قديما، ومع أن تطورات كثيرة حدثت منذ أن كان الطرح الناقد للأحزاب الإسلامية ينتشي بالحجة القائلة بغياب برامج دنيوية إصلاحية فعالة لدى الإسلاميين، إلا أن البعض لا زال عاجزا عن رؤية هذه التطورات المتبدية بوضوح في الأداء السياسي اليومي والمتبدية في الفعالية الميدانية لأصحاب الطرح الإسلامي كلما أتيحت الفرصة لذلك، ( وتوضيحا أقصد هنا الفعالية الميدانية البرامجية، ولا حجة علي بأن أخلاقية الإخوان في مصر مثلا منعتهم من مجاراة خبث الدولة العميقة والعسكر في افتكاك السلطة).
أودّ إذن اطلاع بعض القرّاء على انتفاء العجز البرامجي والتصور الإصلاحي المستند على رؤية ناظمة لأحد أهم مجالات الإصلاح، وأوعر مسالكه: المجال الاقتصادي، من خلال قراءة سريعة في الوثائق التواصلية.
الأسس التصورية
ومنهجيا سأستهل بالرؤية الاقتصادية لتواصل، إذ تشكل المذهبية الاقتصادية أوالرؤية المرجعية محددا مهما للبرنامج الاقتصادي وإطارا موجها له:
تورد الرؤية التي سطرت في الوثيقة المركزية للحزب "الرؤية الفكرية" تحت بند : التنمية الشاملة خيارنا"، المعنى الكبير للنشاط الاقتصادي باعتباره "يكتسي طابعا تعبديا" تحقيقا لمدلول الآية الكريمة: "هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها" ولكونه يحقق أهدافا جليلة: "...وذلك تحقيقاً للحياة الطيبة للمجتمع ولتمام الرشد في استغلال الموارد والكفاية في الإنتاج والعدالة في التوزيع".. وهذه الكلمات المختصرة اختزلت أهم الأهداف الاقتصادية الكبرى لأي نشاط اقتصادي، فتحقيق الحياة الطيبة هدف اقتصادي إسلامي يخرج المناشط الاقتصادية المحرمة شرعا، ويحقق معنى الطيبات المذكور في القرآن، فهذا تأكيد على النسب الفكري للبرنامج الاقتصادي للتجمع الوطني للإصلاح والتنمية. والرشد في استغلال الموارد يجسد البعد الاحترافي العلمي - عكسا للأدبيات المرسلة - لهذه الرؤية، ذلك أن الاستغلال الأمثل للموارد هو أحد ركائز التصورات الاقتصادية المعاصرة، ويندرج في حلول المشكلة الاقتصادية المعاصرة، كما تعرضها تلك الأدبيات. فضلا عن أنه بات ضرورة في ظل الحاجة لتحقيق التنمية المستدامة لبلادنا التي تعبث بثرواتها للباطنية حيتان الشركات المتعددة الجنسيات التي لا ترحم البيئة ولا الإنسان.
أما مفهوم الكفاية في الإنتاج فهو مفهوم مدعم لهذا الاستغلال الأمثل للموارد، وموجه له، باعتبار حد الكفاية هدفا تنمويا تسعى له التنمية الاقتصادية.
والهدف الثالث لإدارة النشاط الاقتصادي كما تورده الرؤية الاقتصادية التواصلية هو " العدالة في التوزيع" وهي إحدى مرابط الفرس في الغايات التنموية، ذلك أنه بدون توزيع عادل للثروة ولو مع تحقيق نمو اقتصادي فسنكون أمام مخرجات الليبرالية المتوحشة التي أججت الفقر وسرقت أقوات الناس من خلال بِنَاء تصورها المذهبي على آليات تحابي الأقوياء والأغنياء وتستغل عوز الفقراء، لتفرز واقعا اجتماعيا ظالما.
ليبراليون أم اشتراكيون ؟
من الطريف أن الرؤية الاقتصادية الاسلامية كثيرا ما حوكمت بالمذهبين الاقتصاديين المعاصرين الرأسمالية والاشتراكية، وهذا جزء من تجليات الهزيمة النفسية ونتيجة من نتائج تأخر تجديد الدين وضعف الصدور عنه في وضع البرامج، فلا معنى لمحاكمة رؤية أصيلة برؤية محدثة دخيلة، ومحاولة حصر المذاهب الاقتصادية في رأسمالية أو اشتراكية هي كمن يحاول أن يفرض على الناس العيش في ليل سرمدي أو نهار سرمدي، جاهلا بأن الله خلق الليل والنهار كليهما..
ولقد عبرت الرؤية الاقتصادية التواصلية عن هذه التوازنية المذهبية، فالإسلام " جعل من المنافسة العادلة والحرية المقيدة بإنتاج الطيبات موجها ناظماً للسوق الإسلامية إلى جانب حرية التملك" ومن جديد نرى حجم الإجمال المستوفي في هذا النص الجيد؛ فالنص يصرح باختيار المنافسة العادلة والحريّة المقيدة وهو اختيار لاقتصاد سوق موجَّه، لا مكان فيه لمصادرة مبادرات الناس وعملهم بحجة التخطيط والاشتراكية كما أنه لا يعطي حرية منفلتة لأباطرة السوق لإنتاج ليبرالية متوحشة، كما لا يصادر حق الناس في التملك بالقضاء على حافز الانتاج والعمل.
وعن حدود تدخل الدولة يوضح هذا النص حجم وضوح التصور :"ولم يغفل الإسلام ما للدولة من دور مهم بوصفها الموجه والمخطط والمكمل والمسؤول عن توفير وتنمية البنى الأساسية والمرافق العامة والمشروعات الإستراتيجية وخاصة تلك التي يُحجم القطاع الخاص عن الولوج إليها، إضافة إلى معالجة الأزمات وإعادة التوازن إلى الاختلالات الاقتصادية ومحاربة الفوارق التنموية بين الأقاليم المختلفة للدولة ".
سوق أخلاقية .. وعمليات مالية تشاركية
" تطهير السوق من المنكرات الاقتصادية " أو بالتعبير القانوني من الجرائم الاقتصادية هو في الرؤية التواصلية كما في الرؤية الاسلامية عموما يمثل ضوابط السوق ويحقق أخلاقيتها، وذلك بمحاربة "الاحتكار والغش والاكتناز والإسراف وغيرها مما يؤثر على توازن مؤشرات الاقتصاد".
وبطبيعة الحال فإن أخطر تلك المنكرات منكر الربا، وإذ تصدِّر به الوثيقة المنكرات الاقتصادية فإنها ترشد إلى النظام المصرفي الإسلامي باعتباره البديل الصحيح بل الأصيل عن الوساطة المصرفية الربوية التقليدية، فتقرر أن البديل عن الربا هو: "اعتماد العمليات المالية على مبدأ المشاركة في الربح والخسارة".
تلك مؤسّسات ومبادئ ومنطلقات البرنامج الاقتصادي لتواصل ولي وقفة مع البرنامج الاقتصادي في جوانبه التفصيلية بحول الله عز وجل.