من المعلوم أن اليوم الثامن والعشرين من نوفمبر يوم لا كسائر الأيام؛ فهو اليوم الذي يعيش فيه الموريتانيون لحظات من أجمل اللحظات التي خلدها تاريخ المنارة والرباط، لحظات ذكرى الاستقلال من المستعمر وما مرت به البلاد من احتلال.
لذا من الواجب تذكر تلك اللحظات التي ضحى فيها الآباء والأجداد بدمائهم من أجل الدفاع عن الوطن الحبيب، وتحريره من يد المستعمر الغاصب، كي تتربى الأجيال على حب الوطن وقيمة الدفاع عنه، مُنوِّهين إلى ما يُشغل الرأي العام من مميزات حُظيت بها هذه الذكرى دون غيرها...
فموريتانيا المحافظة بالأمس، والتي كانت جامعة تتنقل على ظهور العيس كما قال العلامة ابن بونا:
ونحن ركب من الأشراف منتظم أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة بهـــــا نــــــــبين ديــــــــــــــــــــــــن الله تـــــــــبيانا
اليوم رموزها تغيرت ومقدساتها انتهكت، فما الذي أودى بنا إلى ذلك؟
لعل الأمر راجع إلى أن بلادنا لم تستقل حقا بل استغلت.
فالمستعمر طبعا وإن كان قد سحب جرافاته ومدمراته الحربية من بلادنا، قد خلَّف أيضا وراءه ما هو أعظم من الوسائل الحربية، وهو الغزو الفكري الذي نصَّب له سفراء يتقاضون رواتب مقابل الدفاع عن أفكاره من أجل أن تتوارثها أجيالنا.
وهؤلاء السفراء منهم من جُنِّد في عصر وجود المستعمر داخل بلادنا، ومنهم من ذهب إلى بلاد المستعمر بُغية الدراسة قبل أن يٌحَصَّن عَقَديا؛ فتربوا على أفكار المستعمر وكان حلمهم الوحيد تجسيد تلك الأفكار في بلادنا عندما يرجعون إلينا متناسين أن تلك الأفكار لا يَسمح بها إسلامنا، لأن منها ما يؤخذ ومنها ما يُرد.
يؤخذ منها ما لا يتناقض مع الإسلام كمبدإ الديمقراطية، ويضرب منها عرض الحائط ما يتناقض مع الإسلام كحرية المعتقد وفصل الدين عن السياسة الذي استوحوه من فصل الكنيسة عن الدولة في بعض البلدان الغربية...
وهذه الثُّلَّة من أبنائنا عندما يرجعون إلينا ترى الواحد منهم يعتبر الدفاع عن حرمات الله وشعائره من التضييق على الحريات الشخصية، ويصنف الفتى الذي يُعفي لحيته، أو الفتاة التي تلتزم بالحجاب من المتطرفين، ويعتبر الدعاة الذين يسعون لتحكيم شريعة الإسلام وإقامة دولة مسلمة من المتطرفين...إلخ
أضف إلى الاحتلال الفكري الاحتلال الاقتصادي، فلا استقلال لدولة تستورد قوتَ يومها، ولا استقلال لدولة لو حوصرت يوما واحدا هَلكت عن بكرة أبيها...
ومع هذا كله لا نجد من يهتم بغير الفساد بدل الاستثمار من بين الأنظمة المتعاقبة على بلادنا، فلا تجدهم يستثمرون ولا تراهم يشجعون من يسعى للاستثمار، مع كثرة الثروة وسعتها لدينا.
ولا تشعر بهذا الفساد والتأخر الاقتصادي إلا إذا سافرت خارج وطنك ورأيت اهتمام البلدان بمنتوجاتها المحلية والتشجيع عليها، والمغرب الحبيب خير مثال على ذلك، مع أننا أكثر منهم ثروة في مجال التنمية الحيوانية، وغيرها من المعادن التي وهَبنا الله (الحديد - الذهب - النحاس - السمك)، إلا أننا ما زلنا مُستغَلين حقا من قبل المستعمرات، لذا نرسل إليهم تلك الثروات المعدنية ما زالت مادة خام ليستثمروها في بلادهم، مقابل دريهمات معدودة أو صفقات مشبوهة يعود نفعها على النظام ومن على شاكلته، بينما يعود ضررها على الشعب الفقير الذي لا حول له ولا قوة.
ومع ذا وذاك لا بد من أن تبقى لدى كل واحد منا روح الوطنية، وأن يبقى محبا لتلك البلاد الجميلة، محاولا الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
متذكرا قول الشاعر:
بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام