لا أحد يجهل مكانة "تشيت" في المنظومة التاريخية لهذه البلاد، و لا أحد ينكر دورها الكبير في نشر العلم و ربط أرجاء البلد ببعضها على طريق قوافل التجارة و بث المعارف في أحلك العصور عتمة و أكثرها ظلما؟
إن تيشيت المعلمة البارزة و الركن المكين و خزان العلم الهائل الذي يحتوي على موروث وثائقي من 6000 مخطوط يرجع بعضها إلى القرن السادس الهجري هي من أنجبت
خلال القرون الأربعة الماضية الكثير من العلماء و منهم الحاج الحسن بن آغبدي الزيدي، وأبناء فاضل الشريف، وأحمد الصغير المسلمي وأمبال وأبناء امبوجه و اللائحة طويلة.
و إن فكرة إحياء الذاكرة التاريخية و الحفاظ على ميراث الأجداد العلمي، مجسدا في إنقاذ الأثر المعماري من الاندثار و المخطوط النفيس من التآكل و التلف في المدن التاريخية، هي فكرة رائدة ثاقبة تكتسي أهمية قصوى و تشكل دليلا بارزا على وعي متقدم بضرورة صيانة تاريخ البلد و تقدير عطاء نجبائه خلال القرون التي مضت و استعداد بين لرعاية الثقافة و روافدها الأصيلة المميزة. و لكنها أيضا فكرة رائدة للسعي إلى خلق أسباب مبتكرة للانطلاق إلى تطوير هذه المدن و تثبيت سكانها الأصليين في بيئة تحمل سمات المدنية الحديثة الضرورية بكل الصلات و الإمكانات الجديدة من البنى التحتية الضرورية التي أولها طريق يربطها بعواصم ولايات الوطن.
و لما أن مهرجان المدن القديمة الذي أطلق لهذه الغاية النبيلة و المسعى الرفيع فإن الدورات الست الماضية التي سبقت قصرت عن تجسيد المقاصد المرسومة و لتظل الفكرة "بكرا" و إن تفاوتت نسب النجاحات الضعيفة و تباينت النتائج المحققة خلالها.
و جاءت النسخة السابعة لتكرس بضعف تنظيمها و غياب التأطير في مجريات وقائعها تكرارا محبطا لعروض باهتة مهزوزة لا تحمل تجديدا أو حتى إرادة تصحيح ينبني على خلفية من النزاهة الفكرية و الصرامة العلمية و المنتج الرفيع المستساغ و بما اعتراها من بُعد عن التحري و الدقة و جرأة على الاسترسال في الحشو الخرافي المغالط و الأدب الممجوجة أغراضه و غياب المنتج الثقافي الفكري و الفني في دهليز العروض الواحل الضيق الذي غابت عنه اللمسة الفنية التي تريح الزائر و تحمل نسائم جماليات العروض و فوائد الفحوى التي تحملها. و كان ذات تكرار المحتويات المحسوبة على مادة التاريخ و البحوث العلمية و التحليلية التأرخية و المضامينية المعروضة هي نسخة طبق الأصل من ذات المنهجية المتبعة بإسراف في البعد عن المنهجيات المدروسة المحكمة في التقديم و الأسلوب المحتذاة منذ النسخة الأولى فجاءت المعروضات من:
· الوثائق التاريخية بذات المضامين غير المحققة أو المنقحة أو المزيدة لضرورات التوصيل بعد التدقيق و التمحيص و التثبت على الأسس العلمية المحايدة المجردة و الإخراج بالحلة المضبوطة المشذبة بفهارس المرجعيات،
· الشواهد المتحفية من القطع الأثرية القليلة الضعيفة الإبهار، البعيدة الشد و الإقناع، الفقيرة المحتوى التفسيري لنسق التاريخ و مكامن النجاح الحضاري فيه و التي من المفروض أنها موضع الفخر و الذكر و السعي إلى التثمين و الحفظ و الاستغلال لتحفيز الأجيال على المضي قدما إلى المآثر و العلى و تقوية اللحمة على خلفية التاريخ العظيم المشترك،
· التمجيد الغرضي للمقاومة السابق على غربلة أحداثها و حيثياتها و نفض الغبار الداكن عن نتائجها التي ما زال الجذب و الشد حولها على أشده حائلا بفعل التنافر و ضعف المراجع و تناقض القراءات و التأويلات لأحداثها عن تنقيتها من الشوائب التي يتعذر معها الضبط و الكتابة و التأصيل في العقول و النفوس و الغرس في الضمير الوطني المشترك،
· الطروحات الأكاديمية و البحوث العلمية التي تشكو في صلبها من قلة البحث و كثرة التكرار والنسخ واللصق و غياب الروح العلمية و البحثية
· الأدب "المناسباتي" إن جاز التعبير المترهل في تكرار مقيت لهناته و الطرب المجرد من "الالتزام" بالنص و روحه و تحكيم قواعد الموسيقى التي تشترك معه في غرس فضيلة حب الوطن و تثمين تاريخه على خلفية إدراك قيمته القصوى.
و من أجل هذه الحصيلة الهزيلة حضر إلى المدينة عشرات من أقل "الناس" اهتماما بمحتوى هذه التظاهرة و لكنهم في مفارقة غريبة هم وحدهم "المستفيدون" من الأموال الطائلة التي تصرف على تنظيمها فجاؤوا على متن رباعيات الدفع عابرات الصحاري أصنافا و أنواعا من كل فج عميق و في أبهى هندام ينشدون راحة الرخاء و يقسمون أنفسهم على عيون الساكنة المغبرة في عمومها و المنبهرة بمن نغص خلوتها. و في حين لم يفيدوا فإنهم لم يثمنوا بقول أو عمل "صمود" مدينة لها مكانتها المحفوظة و "هيبتها" المستترة باحتشام وراء مسجدها العتيق المتواضع و بقايا مدينتها القيمة الناطقة بخلو أهلها في حقبها الماضية من الغش و النفاق و الطمع في قشور الدنيا الفانية.
صحيح أن الفكرة رائدة و المقاصد عالية و رائعة كالتفاحة الناضجة في تناسق شكلها و لونها و لكن الدودة في قلبها تقتات من داخلها و تفسد ما كان متوقعا لها أن تعطي من فيض نضجها.