اجتاحت قوات المغول بقياده هولاكو بلاد الشام بعد أن أسقطت الخلافة العباسية ببغداد على مرأى ومسمع من ملوك المسلمين، ولم يُحرِّك أمراء الشام ساكنا، بل على العكس باركوا ذلك خوفا، وتملقا، وطمعا في إبقاء هولاكو على عروشهم؛ فهادن ملوك الشام ـ وهم للأسف أبناء صلاح الدين الأيوبي ـ المغول وصالوحهم ظنا منهم أن الغزو المغولي سيُوفِّرهم...وكانت النتيجة أن سقطت بغداد، وقُتل الخليفة المستعصم، وقتل من شعبه ما لا يحصى، ودرَست محاسن بغداد، ثم انتقل هولاكو إلى الهدف الموالي الذي لم يكن سوى الشام.
أنهى الغزاة السيطرة على المدن الشامية واحدة تلو الأخرى، ميافارقين، ودمشق، وحلب... وكان أمراء الشام ما بين قتيل بين يدي هولاكو، أومشرد يطلب الأمان.
لقد تجرع أولئك الحكام مرارة الذل، والهوان، ورأوا عاقبة خيانة البلاد، والعباد؛ فلا هم على الأقل حافظوا على عروشهم، وممالكهم، ولا هم ماتوا أعزة كراما، بل لعنهم التاريخ، وتبرأت منهم الجغرافيا...
مُهِّدَت الطريق أمام المغول، ولم يبق أمامهم بعد أن خان الشامَ ملوكها إلا مصر؛ مصر التي قيض الله لها آنذاك المماليك الذين يخشون على دينهم، وأمتهم، ولهم كرامة رغم بعد الأرض التي جاؤوا منها...توحدت كلمة المماليك، ووقفوا أمام المد المغولي الجارف غير مبالين بتهديد هولاكو، وفي معركة فاصلة بأرض فلسطين الأبية التقى الجيشان؛ المغولي، والإسلامي بعين جالوت فكان ما كان... حُفِر اسم السلطان المظفر قطز، والظاهر بيبرس، والناصر قلاوون في أذهان المغول قبل المسلمين، ولكن من يذكر الآن مؤيد الدين العلقمي، والناصر يوسف، ووزيره زين الدين؛ ليس لهؤلاء ذكر، وإن وجد فهو لا يسر الصديق قطعا.
هذه تماما حال ملوك العرب، والمسلمين اليوم، وليس فيهم استثناء، فلا قطز فيهم، ولا بيبرس، ولكنهم ـ إزاء ما يجري في الأقصى، وبورما، والروهينكا ...ـ نسخ من أمراء الشام.
وبسبب الفرقة ذاتها، وحب الكراسي سقطت الأندلس التي أجَّل المرابطون سقوطها تحالفا مع المعتمد بن عباد في معركة الزلاقة، ولكن اختلاف ملوك الطوائف، قبل ذلك وتبددهم، واستعانة كل واحد منهم بالنصارى على أخيه، كان واحدا من أسباب سقوط الأندلس إلى غير رجعة في أيدي النصارى الصليبيين، فبكى عبد الله( آخر ملوك بني الأحمر) كالنساء ملكا لم يستطع المحافظة عليه كالرجال.
اليوم يعِيث اليهود في الأقصى المبارك، ويدنِّسونه برجسهم نهارا جهارا، وملوك العرب والمسلمين لاهون منشغلون بخلافاتهم، وتوددهم لأمريكا وإسرائيل، وليسوا معنيين بشيء غير ذلك؛ فقصارى ما يطمحون إليه بقاء عروشهم ثابتة، ولتذهب بعد ذلك كل القيم، والثوابت الإسلامية إلى مصيرها المحتوم...لا يذكر هؤلاء أن قلم التاريخ لا يتوقف عن الكتابة، وأن مداده لا ينضب...سيرحل ملوك المسلمين جميعا، ولن يذكر التاريخُ إلا من صنع التاريخَ سيرحلون ولعنات الأجيال تلاحقهم إلى قبورهم، سيلعنهم الأقصى كما لعن الوزير شاور، وبإمكانهم أن يذكرهم الأقصى ويترحَّم على أرواحهم كما يفعل مع صلاح الدين، ولكنه الهوان الذي استمرأه هؤلاء؛ فبات أمرا معتادا، وواقعا لا مفر منه.
من يهن يسهل الهوان عليه==مـا لـجـرح بميت إيـلام
يموت حكام المسلمين على فرشهم الوثيرة، ولا أثر لطعنة رمح، ولا ضربة سيف، ولا رمية سهم على أجسادهم الممتلئة بحقوق شعوبهم.
إن الذين يوالون اليهود ـ ظاهرا أو باطنا ـ جزء من أعداء الإسلام، وسيحكم عليهم من يوالونهم الآن ذات يوم بجرم الخيانة حين تنتهي صلاحية تلك الخيانة، وينتهي منها ما يراد، ولن يجنيَ أصحاب الكراسي إلا الخزي، والعار...محزن أن يكون الأقصى الشريف أولى القبلتين، ومسرى آخر النبيين رهينا بأيدي أبناء القردة، والخنازير، وخلفاءُ الله في أرضه، وولاة أمور المسلمين (من الحكام) يتسابقون إلى تقديم الولاء لمن يسجن الأقصى، ويدنسه، منهم من يعلن ذلك، ومنهم من يخفيه، ولكنهم في الجرم سواء.
لقد تملك هؤلاء السلاطينَ حبُّ الدنيا، وشهوة الملك؛ فنسوا أن لهم عودةً إلى ربهم، وقد استحكم الجبن في نفوسهم؛ فظنوا الحياةَ ملكا، وسلطانا فقط.
كان قطري بن الفجاءة شاعرا فحلا، وفارسا شجاعا قل نظيره، وهو من شجعان، وقادة الخوارج الأزارقة، وله أبيات في الشجاعة، والحماسة يقال إن الجبان إذا سمعها صار شجاعا لما فيها من الحماسة، واستصغار الموت واحتقاره، يقول فيها:
أقـول لـها وقد طارت شـَعاعا==من الأبطال ويحك لن تـراعـي
فإنـك لو سـألـت بـقـاء يـوم==على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا==فـمـا نيْـل الخـلـود بمستـطاع
يُستحسن أن تُعقد قمة طارئة يُجمع فيها ملوك العرب، وتلقى هذه الأبيات على مسامعهم حتى يعلموا أنهم غير مخلدين، وأن الجبن لا يزيد في العمر ساعة، ولكنه يقصِّر أعمار الرجالط ويمحوها من الذكر؛ فللمرء عمران يعيشهما إن شاء، والجبن قاتل لعمر الإنسان الثاني.
ألا يعلم حكام أمتنا أن الدهر دولاب سريع التغير والدوران، وأن تقلبه كفيل بقلب ظهر المجن لهم؟