كانت مسيرة السبت كاشفة لخلجات الجماهير وفاحصة لقبضة قادة الأحزاب على هدير المواطنين و فاضحة لسلوك أمن النظام في الميادين.
أليس من الغطرسة و الاستفزاز أن ترخص وزارة تدّعي أنّها تابعة لنظام ديمقراطي فريد في المنطقة لمسيرة؛ و تحاصرها بأفراد الأمن المدججين بآلات القمع؛ كأنّها تنتظر عصيانا مدنيا؛أو عصابات شغب ؛ أو خطرا داهما سوف ينفجر.
لا أكاد أستسيغ كثافة الحضور الأمني في مهرجان سلمي و مرخص من طرف وزارة الداخلية؛
و هي التي ضايقته قبل أن ينطلق حتى في شعاراته ؛ و أغانيه الحماسية ؛ لا أكاد أستسيغ ذالك إلا إذا كانت تصداد منه الذرائع لإفشاله؛ و قد كادت بالاعتقالات أن تنال ما تريد في أثناءه.
تدفق الجماهير مع شوارع العاصمة و هم يرفعون بعفوية عجيبة العلم القديم ؛ إن كان يدلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ أنصار المعارضة و قاعدتها الشعبية تتقدم بسنين ضوئية على قادتها الحاليين؛ فهم صاروا متمردين لا يهابون السجون و لا القبور؛ ملّوا من فساد النظام و أهله ؛ و يأسوا من إصلاحه أو حتى من علاجه.
أمّا نخبة هؤلاء الجماهير الثائرة و قادتها فالظاهر أنّهم ما زالوا في المربع الأول أللذي يؤمن بالعلاج و الحوار و النضال السلمي مع هذا النظام المستبدّ في عيونهم؛ الجاثم على صدورهم ؛ فهم يعولون كثيرا على هذا المربع الأول ؛ الذي في نظرهم سوف يقبر الفساد عاجلا أم آجلا؛ و يسقط الاستبداد؛ بل سوف يرفع من جديد في نظرهم راية موريتانيا خفاقة شامخة بالعدل و الديمقراطية و الحرية و الإباء.
هذا المهرجان كان أخوف ما فيه بالنسبة للنظام و أكثر ما فيه همّا ؛ هي بروز مهارة التحكم في قلوب الناس لدى زعماء المعارضة خلال المهرجان؛ وهي مهارة واحدة من تلك الطاقات الكامنة فيها ؛ و التي لا يأبه بها النظام؛ و يستخفّ بها تارة ؛ وتارة أخرى يتعامى عنها؛ لكنّه اليوم في هذا المهرجان أصيب بمقتل حين شاهد مهارة التحكم في الجماهير عند قادة المعارضة و القدرة الفائقة على إسكاة و كبت أنصارهم إن شاءوا.
فقد كان ذالك جليا عند ما أنزل الجماهير الأعلام الوطنية القديمة استجابة لنداء قادة المعارضة.
تخيل معي لو أنّ الجماهير لا تأبه بأوامر قادتها في المعارضة و تركت الأعلام المحظورة فوق رؤوسها ؛ تخيّل معي الورطة الكبرى التي سوف يقع فيها هذا النظام ؛ إمّا مجابهة العزل بالعصي و الهراوات و مسيلات الدموع و القنابل الصوتية ؛ مما سوف يترتب عليه كارثة من الجروح و الكسور و التدافع بين المواطنين.
إنّ انصياع الجماهير لأوامر قادتها المعارضة ؛ وتنكيس الأعلام القديمة في هذا المهرجان يعني الكثير و الكثير؛ فهي رسالة قويّة للنظام من هذا الشعب إمّا التفاوض و التفاهم مع هؤلاء الزعماء الذين نستجيب لأوامرهم ؛ أو المواجهة و الثورة على نظامكم في المستقبل القريب.