حمد ذاك ألجاكم *** فات أكبلكم جان
يسو عاد امعاكم *** واسو عاد امعان
يقوم أمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني هذه الأيام بجولة غرب إفريقية أغلبها محطاتها من الجوار الموريتاني، تقوده إلى كل من مالى وساحل العاج والسنغال وبوركنافاسو وغانا وغينيا.
وسبق لهذا الأمير، الذي تتصف علاقات بلاده ببلادنا اليوم بالقطيعة الدبلوماسية، أن زار موريتانيا أثناء انعقاد القمة العربية بنواكشوط 2016، وقد هلل البعض آنذاك لتلبية الأمير الدعوة لحضور القمة انطلاقا من شعور ظل يرافق الموريتانيين بعقدة عدم اهتمام الآخرين ببلدهم، إلا أن " غبطة " الموريتانيون بتلبية الدعوة من طرف الأمير وإعلانه عن حضوره للقمة، وسط تغيب زعماء عرب آخرين عنها، أفسده توقيت وطريقة مقدم الأمير، وانسحابه دقائق بعد افتتاح أعمال القمة بدون سبب، حيث من المعروف أن أي مؤتمر قمة يكون معلوما لدى ضيوفه موعد افتتاحه، ليصلوا بلد انعقاده بمدة تسمح بإقامة مراسيم استقبالهم ثم استراحتهم وحضورهم لجلسة الافتتاح..
لكن الأمير ضبط ساعته وحسب وقته، واختار الهبوط في المطار في الوقت الذي ستكون فيه أعمال القمة قد انطلقت أو هي على وشك الانطلاق، ويكون الرئيس المستضيف لها يستقبل ضيوفها عند مدخل خيمتها. أرسل الرئيس وزيره الأول لاستقبال الأمير في المطار الذي وصله في ثلاث أو أربع طائرات بشكل استعراضي غير مألوف، ومن المطار انتقل الأمير فورا لمقر انعقاد القمة لينسحب بعد أقل من ساعة من افتتاحها بدون أسباب واضحة، فأرسل الرئيس وزيره الأول أيضا لتوديعه، ليتساءل الجميع لماذا يحضر الأمير أصلا ولا يرسل من ينوبه بدل هذه " الطلة " الخاطفة؟!
أما والد الأمير فقد زار بلادنا أربع مرات، أولاهما كانت في يونيو 1998 سنتين بعد إطاحته بحكم والده ونفيه له في بريطانيا، في زيارة أعلن خلالها أنه جاء للتعرف على موريتانيا وبحث آفاق التعاون معها. وكانت زيارته الثانية في يونيو 2003 بهدف التضامن مع الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع بعد فشل المحاولة الانقلابية على نظام حكمه كما أعلن، بينما كانت زيارته الثالثة في إبريل 2008 بعد أشهر من انتخاب سيدي ولد الشيخ عبد الله رئيسا للبلاد، ونقل يومها أنه حث الرئيس على إشراك حزب إخوان موريتانيا في الحكم مقابل تكثيف الدعم المالي لموريتانيا، وهو الإجراء الذي أقدم عليه ولد الشيخ عبد الله بسرعة مفاجئة، و" طعمه " بإشراك نقيض حزب " تواصل " إيديولوجيا حزب اتحاد قوى التقدم، لكي يظهر الإجراء وكأنه رغبة منة في توسيع الشراكة السياسية مع المعارضة وليس استجابة لضغوط الأمير القطري، خاصة وأن الحزبان يشتركان في وقوفهما ضد ولد الشيخ عبد الله في شوطيه الأول والثاني، بل كان يصفه أحدهما بمرشح العسكر، ويصفه الآخر بالرئيس الضعيف..!
غادر الأمير القطري العاصمة هو وزوجته بعد تلك الزيارة دون ترتيبات ولا مراسيم وداع، وسط لعلعة الرصاص المتبادل بين رجال الأمن وعناصر تنظيم القاعدة في مقاطعة تفرغ زينة غير بعيد من مقر إقامة الأمير وحاشيته.
أما آخر زيارة للأمير القطري الأب فقد كانت سنة 2012 في ظل حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وتكرر خلالها نفس الحدث بمغادرة الأمير دون مراسيم توديع على أي مستوى، وتكررت التسريبات خلالها أيضا عن إعادة الأمير للكرة وطرح موضوع إشراك إخوان موريتانيا في الحكم، بالإضافة إلى حثه على طرد السفير السوري في نواكشوط، واعتبار الرئيس عزيز لذلك الأسلوب إملاءات واستخفاف بسيادة موريتانيا وتدخل غير مقبول في شؤونها في عقر دارها، ومنذ ذلك اليوم جمَدت العلاقات بين البلدين إلى أن تم قطعها منتصف السنة الجارية، وأعلنت الخارجية الموريتانية أن القرار كان ناضجا.. ومهما شكك المشككون في ذلك النضوج، فإن الفترة التي سبقت إعلان قطع العلاقات تؤكد أن القرار فعلا كان ناضجا ولا ينتظر سوى الإعلان رسميا.
وبالتالي فطبيعي، وليس محل تساؤل، أن يستثني الأمير القطري موريتانيا من جولته الإفريقية، وأن يتعمد التركيز في جولته على الجوار الإفريقي لموريتانيا، رغم المكانة الاقتصادية والديموغرافية لبلدان أخرى في جنوب القارة ووسطها وشرقها، هي أقرب لقطر جغرافيا وثقافيا آنكلوسكسونيا بشكل يستجيب لأهداف زيارة الأمير لتلك البلدان أكثر من زيارته لبلدان غرب إفريقيا البعيدة جغرافيا وثقافيا، حيث أعلنت الخارجية القطرية أن الزيارة بهدف البحث عن أسواق للمنتجات القطرية، ومعلوم أن المنتجات القطرية، في الوقت الذي نتحدث فيه، هي منتجات مفترضة لا زالت في طور التفكير والتخطيط لخلقها أولا مما يجعل البحث لها عن أسواق سابق بكثير لأوانه، حيث لم تفكر قطر في خلق منتجات أخرى غير النفط والغاز إلا قبل شهر من الآن على إثر الحصار المفروض عليها من طرف ثلاث دول خليجية تطوقها من كل الجهات تقريبا..
كل هذه المعطيات تشجعنا على الإنصات لما توارد من أنباء ومعلومات عن سعي قطري لإفشال مساعي تجسيد وقيام دول مجموعة الساحل الخمس وقوتها المشتركة المزمع تشكيلها، والتي أظهرت كل من السعودية والإمارات اهتماما بها من خلال حضور ممثلين للبلدين اجتماع التعبئة المالية لهذه القوة بباريس قبل أسبوعين، وإعلانهما لدعمها ماليا بمبلغ 130 مليون دولار، ومن بين محطات الأمير القطري الإفريقية دولتان محوريتان من هذه المجموعة من حيث أهداف إنشاء القوة المشتركة بحكم تأثرهما بهجمات العناصر المتشددة أكثر من غيرهما هما دولتا مالي وبوركينافاسو.. وتم استثناء البلدان الثلاثة الأخرى، موريتانيا واتشاد والنيجر، من جولة الأمير بفعل سوء العلاقات القطرية معها بشكل متفاوت، في ما قد يكون محاولة لاختراق المجموعة من خلال البلدان المزوران.
وعلى أية حال، بالنسبة لنا في موريتانيا، فإن الأمر " يسقط علينا ثلجا " كما يقولون.. فمن ناحية قد " شبعنا " ما شاء الله زيارات لحكام دولة قطر إذا كانت من ورائها نتيجة، وفعلا قد تكون من ورائها لكننا توصلنا، بعد صبر وطول انتظار، إلى قناعة بأن تلك النتيجة ليست من ذلك النوع الذي تعودنا عليه من الأشقاء في الخليج عموما، كدعم سخي لاقتصاد بلد لا زال يحتاج إلى دعم أشقاء لديهم فوائض مالية موجهة لدعم الأشقاء الأقل موارد، لكن بدون منِ ولا إثارة ولا تدخل في الشؤون الداخلية..
ومن ناحية أخرى نحن مطمئنون على أن مساعي دولة قطر للتأثير في دول مجموعة الساحل أو تقويض كيانها، إن صحت تلك المساعي، فهي محكوم عليها بالفشل ولعدة عوامل، أولها أن إنشاء المجموعة يمثل قناعة تمليها التحديات لدى قادتها، ويسيرون بها بإرادة وحماس وزخم ونشاط مكثف لا تعرفه أي من التجمعات الإقليمية الأخرى، وهي بالنسبة لهم عمل استراتيجي يتوقف عليه بقاء وتنمية بلدانهم، ولقوا له من التجاوب الدولي ما يشجعهم ويقنعهم أكثر على المضي فيه بنفس الزخم والحماس والنشاط والتحصين ضد " التخريب " الخارجي القائم على التنافس الإقليمي والدولي..
وثانيا فإن مجموعة دول الساحل تقف خلفها دول قائدة ورائدة في الاتحاد الأوربي هي الأقرب جغرافيا للفضاء الساحلي كفرنسا وألمانيا وإسبانيا، ليس بالضرورة من أجل عيون شعوب الساحل وبلدانه، وإنما درءا للإرهاب والهجرة السرية عن هذه البلدان وعن أوروبا من بعدها.
وثالثا لأن المسعى القطري للنفوذ في الساحل لم تكن له قواعد تاريخية يستند إليها، وإنما أملته أزمتها مع خصميها في الخليج، وهما خصمان أحدهما، أي المملكة العربية السعودية، يمثل ثقلا كبيرا روحيا وماليا ليس من السهل تجاوزه في هذه البلدان التي له معها تاريخ طويل من التعاون والتبادل والمصالح المشتركة، وثانيهما دولة الإمارات العربية المتحدة التي لها هي الأخرى إرث وصيت إمارات الشيخ زايد الذي حافظ عليه خلفاؤه في هذه البلدان وفي غيرها بلدان إفريقيا والعالم الثالث عموما.
محمدو ولد البخاري عابدين