في التاريخ البعيد، أدت التناقضات بين التيارات الفكرية إلى ظهور مذاهب وإيديولوجيات متناقضة هي الأخرى. وهذه الحقيقة التي بني عليها العالم عبر القرون هي مصدر التقدم العلمي والتكنولوجي للبشرية ثم تنوع الحضارات والأنظمة السياسية وأساليب الحكم التي ميزت العالم حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي.
وقد شكلت بالفعل العقود الأخيرة من القرن العشرين، نقطة تحول حاسمة حيث اختفت القطبية الثنائية (الشرق والغرب) بعيد تفكك الاتحاد السوفيتي
وظهر قطب واحد انفردت الولايات المتحدة بزعامته وارتفعت الاحتياجات من الطاقة إثر التصنيع المتزايد للعديد من البلدان وأخيرا صعدت حركات جهادية إسلامية زادت معها التهديدات للدولة العبرية ولمصالح الغرب عامة.
وتظهر هذه المقالة أن رجل القرن الحادي والعشرين يختزل الرد على جميع هذه التغييرات في جعل "الأسلحة" سلعة هذا القرن وسر البقاء النفوذ. ولهذه الأسباب يلاحظ أن مختبرات البحوث العلمية والتكنولوجية في العديد من البلدان أصبحت تكرس معظم أنشطتها لصناعة الأسلحة وأن المداخل تتزايد بالتوازي مع حجم الاستثمار في هذه الصناعة الجديدة المربحة على أكثر من صعيد.
وبالموازاة مع هذا الاتجاه نحو إنتاج أسلحة متطورة وبيعها الانتقائي من جانب الدول المنتجة في إطار العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف، برز نشاط مربح هو الآخر ويتمثل في الاتجار بالأسلحة ومستشاري الأمن والمدربين وبوحدات الحماية إلخ.
وهذا الوضع الجديد ـ المبني على مبدإ التسلح ـ أجبر رجل قرننا على اعتماد سياسة خلق بؤر التوتر أي المواجهات الأثنية أو الحروب الأهلية أو حتى الصراعات العسكرية بين بلدين أو بين تحالفات من عدة بلدان؛ ولا يهم ما إذا كانت الدوافع هي تضارب المصالح أو شغف وحب إثارة حروب كثيرا ما يدفع ثمنها الأبرياء والفقراء من الشعوب.
وما الطفرة الحالية في صناعة الأسلحة، والتي ينتظر أن تفاجئ العالم في السنوات القادمة، إلا إحدى تجليات هذا الوضع الجديد الذي سيجعل أصحاب الأسلحة يعمدون إلى خلق أعداء جدد وهميين أو حقيقيين وإلى تشجيع أسباب ودوافع الصراعات أني وأينما تكون الحاجة.
وفي هذا الصدد نرى رجل القرن الواحد والعشرين (في الغرب أساسا) يتخلى شيئا فشيئا عن سياسته القديمة حيث كان يدفع بجنوده إلى ساحات القتال ويتحمل كامل تكلفة الحرب أو الجزء الأكبر منها ليسترجع التكاليف لا حقا بطرقه الخاصة. وبالتالي فها هي البلدان الرائدة في مجال تصنيع الأسلحة العسكرية تعترف، بعد عدة عقود من لعبة الإخفاء والتستر، بأن النظام العالمي الجديد إنما يعني التسلح وإبطان أو إلصاق الطابع العسكري لأي تعامل بين الدول والتكتلات الإقليمية والدولية؛ فهم بهذا الاعتراف يعتقدون أن الوقت قد حان لينفذوا، على مرأى ومسمع جميع سكان المعمورة، إستراتيجيتهم الرامية إلى الهيمنة أو السيطرة على العالم بأقل تكلفة بشرية ومادية؛ وهذا يعني العمل حاليا ومستقبلا على:
1) تعزيز احتكار الأسلحة النووية عن طريق منع أي بلد جديد من اقتناء أسباب صناعتها؛
1) اعتماد عقيدة الحد من إرسال مواطنيهم إلى ميادين القتال وذلك من أجل وصول عدد قتلاهم إلى الصفر في نهاية المطاف وهي عقيدة يتمثل وجهها الآخر في القيام بالحرب عن بعد أو في إيجاد من يقوم بها بالوكالة؛ وهي أهداف يمكن تحقيقها بواسطة:
• اللجوء إلى استخدام مرتزقة؛
• استخدام قوات الأمم المتحدة في الحرب بعد أن كانت مهمتها تقتصر أصلا على حفظ النظام وذلك لأن هذه القوات تتألف أساسا في العادة من مواطني البلدان النامية؛
• إنشاء أطر مؤسساتية عسكرية إقليمية للتعاون (مثل مجموعة بلدان منطقة الساحل ال5)؛ وهذا يعني أولا اقتصار مشاركة الدول العظمى على توفير المعدات العسكرية والدعم اللوجستي وثانيا ترك البلدان التي تجري فيها الصراعات تتحمل التكاليف البشرية وتتقاسم الجانب المالي مع المانحين؛
2) استخدام أجيال جديدة من أسلحة الحرب المتطورة والمدمرة مثل (أ) الطائرات بدون طيار والمعدات الإلكترونية المتطورة (ب) الروبوتات المعروفة باسم سلاح المستقبل والجندي المثالي، وأخيرا (ت) أسلحة الليزر من جميع العيارات (سلاح الليزر الكيميائي المتنقل).
أما الهدف المبطن للدول العظمى في الغرب ولإستراتيجيتها المأساوية، فهو بالدرجة الأولى ضمان أمن إسرائيل ثم وضع اليد على كل مقدرات العالم من الطاقة وعلى الممرات البحرية الإستراتيجية في كل مكان. وهذا يعني إجباريا مراجعة اتفاق سايكس ـ بيكو وتغيير خريطة بعض المناطق وكل ذلك باسم مكافحة الإرهاب الأسطوري الذي يعني، في الحقيقة والواقع، الحركات الجهادية الإسلامية وبعض حركات التحرر (فلسطين).
وسوف تزيد من سرعة تحقيق هذا الهدف، التحولات العميقة والمتسارعة التي تجري حاليا في منطقة الجزيرة العربية والشرق الأوسط، فضلا عن الصراعات الأخرى التي من المرجح أن تصبح واسعة الانتشار وذلك للعديد من الأسباب الموضوعية وغير الموضوعية.
وفيما يتعلق باعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإنه جاء تتويجا لمسار طويل وضمن إستراتيجية خداع معدة منذ زمن بعيد بموافقة جهات بعيدة كل البعد عن التهم والاشتباهات. ومن ثم فهو قرار خطط له بليل ويهدف إلى خلق درجة من الفوضى قد تستدعي تدخلا خارجيا يعطي في النهاية الغلبة لإسرائيل؛ وعندها يصبح بالإمكان ترحيل باقي الشعب الفلسطيني نحو البلدان العربية وإلى بقية العالم وفقا لنظام الحصص الشهير الذي سبقت تجربته في المهاجرين الفارين من بلدان طبقت فيها نظرية الفوضى الخلاقة التي كانت قناة الجزيرة والربيع العربي من أوائل تجلياتها ميدانيا.
وغير بعيد عن كل هذه الإرهاصات نرى من يحاولون التنبؤ بأين تسير البشرية أو تتجه، يغلبهم الخوف من رؤية الفلسطينيين يلقون مصير شعب الأندلس بعد طرده من وطنه على فترات عدة ابتداء من العام 1501. من منا يجهل أن الشعب الأندلسي متناثر بين عدة بلدان وأنه يعيش اليوم في عالمه الافتراضي الخاص المسمى "المنظمة العالمية لشعب الأندلس" وفي حلمه الطوباوي بالعودة إلى وطن الأجداد.
أما العرب فليسوا بأفضل حال ولم يكن بوسعهم سوى البكاء والعض على الأنامل لفوات فرص تخصيص نسبة 5-6٪ من الناتج المحلي الإجمالي لتطوير البحث العلمي والتكنولوجي والابتكار وامتلاك القنبلة الذرية وإنتاج أسلحة متطورة مثل تلك التي تحمل "صنع في إسرائيل".
والمؤسف جدا بالنسبة للبشرية جمعاء أن الوقت قد فات لنأمل تغيير سلوك رجل القرن الحادي والعشرين عموما وقادة الدول المنتصرة علميا وتكنولوجيا خاصة حتى ولو تم اللجوء إلى روح ومبادئ وأساليب الفلسفة وعلم الاجتماع والطب النفسي والتحليل النفسي وعلم السلوك.
اللهم لا حول ولا قوة إلا بالله.