كيهيدي مدينة "تآلف القلوب" (4) / محمدٌ ولد إشدو

"هويتنا هي التحدي الجوهري" الرئيس المختار ولد داداه

كيهيدي الرابعة
سبحانك اللهم ما أجل شأنك وأعظم قدرتك.. وما أبهى عودة المياه الوطنية إلى مجاريها الطبيعية، فتنهمر العواطف والمشاعر النبيلة وتتدفق ينابيع وأودية النفوس حبا وخيرا ورحمة ووئاما، وترتسم البسمات على الشفاه ورودا باكَرَها الندى، وتشرق البهجة في الوجوه شمس ضحى كانت قد أفلت من عيوننا حين عسعس ليل التيه والطغيان في الأرض 

وعشش الجفاف والجفاء في الأرواح.
صورة أسرت قلوبنا عند وصولنا مدينة كيهيدي في دورة مجدها الرابعة منتصف ليلة عيد الثامن والعشرين من نوفمبر. كانت صاحية ومشرئبة إلى الحدث منذ أسابيع، وباتت مستنفرة طيلة تلك الليلة ونهار الغد، تعج بالحب والحياة.  خرج سكانها بمختلف أطيافهم وأعمارهم إلى شوارعها وساحاتها الفسيحة في عرس وطني لا مثيل له فرحين ومستبشرين يغنون الأناشيد الوطنية والشعبية ويحملون الأعلام الوطنية ويرقصون كل حسب طبيعته وفنونه، دون أن ينسوا ما هو مشترك بينهم ووطني.
التدشينات والمباريات وحمل المشاعل، والألعاب النارية... ثم رفع العلم الوطني الجديد وعزف النشيد الوطني وتوشيح مكرمي الجمهورية في ساحة الولاية. وأخيرا العرض العسكري المهيب في ساحة الاستقلال.
  
ثلاثة عوامل كانت وراء تألق هذا اليوم الوطني الأغر:
1.  يتعلق العامل الأول منها بملحمة كيهيدي الثالثة التي تطرقنا إليها آنفا؛ فلولاها ما كنا، ولا استطعنا الوصول إلى أدنى حد مما نحن فيه اليوم من فرح وحبور. فهنيئا لنا ولشعبنا ودولتنا بذلك الإنجاز وبتلك السياسة الوطنية التي رأبت صدع الوحدة الوطنية فأينعت واشرخن شبابها، وعاد الوئام والتفاهم والانسجام وتمددت وتجددت وتجسدت أواصر القربى والأرحام والجوار، ورسخت المواثيق والعهود، وأصبحت وحدتنا الوطنية حصنا منيعا تحطمت دونه محاولات دعاة الفتنة لما حاولوا التأثير على هذا الجو الوطني البهيج فنكصوا على أعقابهم خائبين.
2.  ويتعلق العامل الثاني بأهمية قرار تخليد الذكرى السابعة والخمسين للاستقلال الوطني في ربوع الضفة وتشريف عاصمة غورغول باستضافة ذلك الحدث العظيم لتأخذ مكانها الطبيعي في مصاف عواصم الولايات التي نالت هذا الشرف؛ وهي أطار وانواذيبو. خاصة أنه بالإضافة إلى ما في هذه الحظوة من رمزية فإن احتفالات هذه السنة تكتسي معنى خاصا لأنها ستتجسد فيها على أديم الجمهورية الإصلاحات التأسيسية التي أقرتها منتديات الحوار الوطني وصادق عليها الشعب في استفتاء 5 أغسطس المبارك؛ إذ سيرفرف العلم الوطني الجديد على التراب الوطني لأول مرة، ويعزف كذلك النشيد الوطني الجديد.  وبذلك لا يسجل التاريخ أن مدينة كيهيدي كانت هي عاصمة الجمهورية الإسلامية الموريتانية في هذا اليوم الأغر فحسب، بل أنها كانت العاصمة التي شهدت إقامة مراسيم إعادة التأسيس. إنها للفتة كريمة إلى هذه المدينة تثمن دورها الوطني، وتكرس إعادة الاعتبار إليها وإلى ساكنة الضفة، وتحمل عرفانا وذكرى لأرواح أبنائها البررة المجاهدين في سبيل وحدة وعزة الوطن؛ وخصوصا القائدين يوسف كويتا والداه ولد سيدي هيبه رحمهما الله. وقد تفهم سكان الضفة وكيهيدي هذا التشريف وقدروه فكان الوجه السياسي الناصع لكيهيدي الرابعة.
3. أما السبب الثالث فهو لا يقل أهمية عن السببين السابقين.
يقول شاعر موريتانيا الكبير الأستاذ أحمدُ ولد عبد القادر:
إذا ملك الإنسان حق احترامه ** فكل اعتبار بعد ذلك يصغر.
نعم. لقد ملك إنسان الضفة حق احترامه، وأعاد له الوطن الاعتبار والتمكين، فرسا بذلك صرح الوحدة الوطنية على أساس متين. بيد أن قادة الوطن الذين لديهم رؤية طموحة لما يجب أن تكون عليه موريتانيا الناهضة المتصالحة لا تقف أحلامهم عند حد. ولذلك حملوا في هذه الذكرى إلى إنسان الضفة ونواحيها الموانئ والقنوات والسدود واستصلاح الأراضي الزراعية والطرق والمياه والكهرباء والمدارس والمستشفيات والإعمار والدعم؛ إضافة إلى ما وفروه للوطن جميعا من استقلال وقوة وأمن وحريات ورخاء (راجعوا التدشينات وخطاب الاستقلال) وها هم يعلنون تخصيص عشرة مليارات أوقية من الميزانية لدعم الفقراء لعلمهم بأن التفاوت والغبن والحرمان والتهميش خرق لحقوق المواطن وانتهاك لشرطه الإنساني وأصل للفوضى والإرهاب والخراب. وهذه الحصيلة الباهرة هي التي تمثل الوجه الاقتصادي والاجتماعي الناصع لكيهيدي الرابعة؛ وإن كان ما يتعلق بعزة الوطن وتوطيد الوحدة الوطنية وتحسين حياة الناس لا يعني كثيرا بعض مثقفي وقادة رأي  انواكشوط بقدر ما تعنيهم منافعهم وامتيازات ومصالح من يرعونهم!
فهنيئا لموريتانيا بعيدها الوطني الزاهر الزاخر بالعطاء، ونتمنى لها تحقيق المزيد مما يجب ويمكن تحقيقه، بقدر ما يتم شل يد الفساد والبغي والتخريب، وسد جميع الثغرات في الصرح الوطني في وجه الاستعمار والصهيونية والعنصرية، والإرهاب التكفيري القذر.
ولم يبق الآن من رحلتنا سوى جولة تذكارية في بعض أحياء كيهيدي بحثنا خلالها عن دار الشيخ سينغوت عثمان فوجدناها أصبحت قبلة سياسية يؤمها أهله ومعارفه ومناضلو حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الذي يرأسه في الولاية. وقد قضينا معه وزوجته جينابا وقتا مليئا بالود والحنين إلى ذكريات السبعينات المجيدة التي لا تنسى.

 

29. ديسمبر 2017 - 1:39

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا