لا أحد يجادل على الإطلاق في أن عملية عسكرية فرنسية موريتانية نفذت علي الأراضي المالية من أجل توجيه ضربة لبعض عناصر تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي ،لكن الجدل قائم بشأن أهداف العملية ونتائجها والفاعل الحقيقي وتوقيتها والأطراف المستفيدة والخاسرة علي حد سواء.
ورغم أن الرؤية الحالية للأحداث لا تزال تميل لصالح رواية الجيش الموريتاني إلا العديد من المعطيات المتوفرة تكشف بجلاء حجم التناقض الحاصل بين الواقع والمعلن ،والفاعل والمفعول به في عملية ستكون من دون شك بداية مرحلة جديدة في الصراع القائم بين نواكشوط و القاعدة يأمل الموريتانيون أن لا تكون لها انعكاسات سلبية مباشرة علي الاستقرار داخل البلاد.
عودة الفرنسيين!!
منذ وصول الرئيس الفرنسي "نيكولا ساركوزي" إلي السلطة في فرنسا بدت المطامع الفرنسية واضحة في العودة بقوة إلي إفريقيا(المستعمرة السابقة) ليس من باب النفوذ السياسي فحسب بل من خلال تواجد عسكري يضمن لها المزيد من الـتأثير في مجريات الأحداث والتعامل معها عن قرب كلما اقتضت الضرورة ذلك.
وخلال ثلاث سنوات بدت أنظمة القارة في مرحلة من أسوء مراحلها علي الإطلاق ،إما خنوع بالمرة أو رحيل عنيف كانت موريتانيا وغينا بيساو وغينا كوناكري والنيجر أهم ضحاياها،بينما نجت "أتشاد" بأعجوبة بعد أن وقع "إدريس دبي" صك استسلامه للقاعدة الفرنسية تحت ضغط قوات التحالف المناوئ له قبل ساعات من اقتحام القصر الرئاسي بأنجامينا.
ومنذ سيطرة الجيش الموريتاني علي مقاليد السلطة السياسية بموريتانيا بدأت القوات الفرنسية في تعزيز تواجدها علي الأراضي الموريتانية ليتوج التعاون الفرنسي الموريتاني بزيارة نادرة هي الأولي لقائد أركان جيش فرنسي إلي نواكشوط منذ سنوات طويلة.
الثاني عشر من أكتوبر 2009 كان الجنرال جان الويس جورجيلان قائد أركان الجيش الفرنسي يضع اللمسات الأخيرة علي تعاون فرنسي موريتاني مع نظيره قائد أركان الجيش الموريتاني اللواء محمد ولد الغزواني والرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز في اجتماع ضم الثلاثة بالقصر الرمادي بنواكشوط.
السلطات الموريتانية قالت إن هدف اللقاء كان دراسة سبل التعاون بين الجيش الموريتاني والفرنسي، والدور الذي يمكن للجيش الفرنسي أن يقوم فيه في تدريب الجيش الموريتاني، إضافة للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، ومواجهة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، إضافة للتهريب الذي تعرفه الحدود الموريتانية مع جيرانها.
لكن الرجل المولع بالتراث الموريتاني – كما قدمته وسائل الإعلام الرسمية ساعتها - قام بجولة خاطفة شملت أهم المناطق الحدودية شمال البلاد حيث تتواجد قوات بلاده العاملة بموريتانيا ،وألتقي خلالها بأغلب الضباط الموريتانيين العاملين في المنطقة الشمالية،كما سمع عرضا مفصلا عن الخطة العسكرية الموريتانية لمواجهة القاعدة ودور الوحدات العسكرية التي تم إنشائها من قبل قيادة الأركان في ضبط الحدود المضطربة مع الجزائر ومالي.
ولم يقتصر التحرك الفرنسي علي العمل الميداني بل كانت النخبة الأمنية والقضائية علي موعد مع حراك من نوع آخر وكان السفير الفرنسي وأبرز معاونيه في نواكشوط قد دعوا إلي اجتماع شامل يوم 20 نوفمبر 2009 لتقييم الترسانة القانونية في موريتانيا المعدة لمواجهة الإرهاب والمساعي المبذولة لتحقيق ذلك.
اللقاء الذي شمل من الجانب لموريتاني كلا وزير العدل والداخلية وقائد أركان الدرك والمدير العام للأمن والمدير العام للجمارك والمدعي العام بوزارة العدل خصص لدراسة أهم النصوص القانونية المتعلقة بالإرهاب في موريتانيا وسبل تطويرها.
ووفق ما أعلنته الحكومة الموريتانية فإن الاجتماع الذي عقد تحت عنوان " اجتماع لجنة متابعة مشروع "العدالة والأمن في منطقة الساحل الصحراوي"بحث الخطة الفرنسية المتعلقة بالأمن في مناطق الساحل الصحراوي والممولة بمبالغ مالية تصل أربعة ملايين أورو موزعة بين موريتانيا ومالي والنيجر، بهدف ترقية ومعالجة النصوص القانونية المتطابقة مع قواعد قانون الإجراءات الخاصة بمكافحة الإرهاب والتهريب وتدفق الهجرة غير الشرعية.
وقد كان من الواضح أن وتيرة التعاون الفرنسي الموريتاني تسارعت بشكل لافت خلال الأشهر الماضية علي المستويين العسكري والسياسي ،وهي مسيرة من دون شك توجت بأعمال مشتركة لعل أهمها هو عملة "لمزرب" التي وجهت بموجبها نواكشوط ضربة قاسية لبعض العاملين في مجال تهريب المخدرات بمنطقة الساحل،رغم أن المعطيات غير الرسمية – وبعضها من مصادر موثوقة- تشير إلي أن العملية نفذت علي الأراضي المالية بعيد معلومات استخباراتية عالية توصلت بها نواكشوط من فرنسا أياما قليلة بعيد إطلاق سراح الرهينة الفرنسي لدي القاعدة "بيكمات" مقابل أربعة عناصر من التنظيم بينهم موريتاني.
ورغم أن نواكشوط ربحت – حسب المعلن- قتل ثلاثة من العاملين في مجال تهريب المخدرات إلي أوربا وأسرت 20 آخرين واستولت علي عدد من الأسلحة وعلى ست سيارات "تويوتا" ثلاث منها محملة بالمخدرات وشاحنة تحمل هي الأخرى خمسة أطنان من المخدرات تم إحراقها لاحقا فإنها خسرت علاقاتها بجمهورية مالي التي شعرت بالإهانة بعيد انتهاك سيادة أراضيها مرتين خلال شهر واحد من قبل قوات الجيش الموريتاني.
وبدأت الأزمة ...
في السادس عشر من يونيو 2010 كانت الأجواء السياسية بموريتانيا تنذر بتصعيد جديد بين الأحزاب السياسية المناوئة للرئيس الموريتاني والنخبة العسكرية والمدنية المدعومة من فرنسا،وكان الجدل قد أخذ منعطفا جديدا بين منسقية أحزاب المعارضة ونظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز بعيد اتهام زعيم المعارضة أحمد ولد داداه للأخير بتسليم الأراضي الموريتانية لجيوش أجنبية دون موافقة البرلمان أو علم الشعب قائلا في مهرجان المعارضة الشهير "إن هنالك قوات أجنبية تتحرك داخل البلاد جيئة وذهابا دون علم الشعب أو موافقة البرلمان،وإن الأمر يشكل تهديدا خطيرا للسلم الاجتماعي في موريتانيا ويعرض البلاد لأعمال عدائية بعيد انخراطها في حرب بالوكالة عن الآخرين"..
كلمات ولد داداه لم تكن تصريحات معارض غاضب بل كانت نذر مرحلة جديدة دخلتها البلاد ضمن صراع مفتوح بين الغرب والقاعدة قد تكون فيه موريتانيا "يمن" العرب الثاني – غير السعيد - تستقبل الجيوش دون موافقة وتدار علي أراضيها المعارك مع "الإرهابيين" دون أن تكون طرفا في النزاع أو لديها علم بتفاصيل الصراع.
ورغم أن رموز السلطة في موريتانيا اختاروا ردم الرؤوس في الرمال عن موضوع شائك دون إذن من الرئيس أو الفاعلين الرئيسيين في الملف فإن السفير الفرنسي بنواكشوط اختار أن يكون الطرف الممسك بزمام الخيط الآخر في رسالة عتب وتحدي إلي زعماء المعارضة الذين قاطعوا حفل سفارة بلاده بحجج تراوحت بين الانشغال المسبق والمرض.
السفير الفرنسي في نواكشوط ميشل فانبورتر لم يخف سعادته الشخصية بالمكاسب التي حققها صديقه الجديد بموريتانيا الرئيس محمد ولد عبد العزيز دون أن ينسي الرد علي تصريحات زعيم المعارضة أحمد ولد داداه قائلا : إن الإدارة الفرنسية ستواصل دعمها لموريتانيا "مع احترام كامل لسيادتها و تشبث بالمبادئ التي ما فتئت تنير لها الطريق" .
وفي رسالة دعم جديدة لمواقف ولد عبد العزيز في مواجهة خصومه من السياسيين قال ميشل فانبورتر "أود بهذه المناسبة أن أحيي بحرارة كل أولائك الذين يكرسون جهودهم من أجل الرقي الاجتماعي و الازدهار الاقتصادي لموريتانيا ـ و أعلم أنهم متواجدون معنا بكثرة هذا المساء".
فخاخ القاعدة ...
يكاد يجمع أغلب المتابعين للعملية الحالية شرق موريتانيا علي أن مواجهة عسكرية وقعت بالفعل بين القاعدة والجيشين الموريتاني والفرنسي ،لكن يختلف الكل تقريبا في حجم وأهداف العملية ،وتقييم المبررات التي قدمتها نواكشوط لتسويق رؤيتها داخل وخارج البلاد.
ويميل الرأي العام عموما إلي تصديق الفرضية الرائجة حاليا بأن قوات فرنسية نفذت العملية بغية تحرير الرهينة الفرنسي "جيرمانو" من قبضة خاطفيه المفترضين،وأن جنود الجيش الموريتاني كانوا جزءا بالفعل من معركة التحرير المفترضة لضمان جبهة إسناد واسعة للفرنسيين في رمال مالي المتحركة.
ويعزز هذا الرأي مسارعة الفرنسيين إلي توضيح دورهم في العملية والذي حددوه بالإسناد التقني والفني لبعض الآليات الفرنسية في محاولة للنأي بالنفس عن الآثار السالبة لأي عملية فاشلة من هذا القبيل قد تضر بصورة الجيش الفرنسي في أولي مهامه القتالية بالصحراء،أو أي تداعيات سياسية للعملية في حالة إقدام القاعدة علي إعدام الرهينة الفرنسي انتقاما لضحاياها ونكاية ب"ساركوزي" المثقل حاليا بفضائح مالية باتت شغل الفرنسيين الشاغل .
لكن وزارة الدفاع الفرنسية لم تنس نصيبها من عملية التسويق المطلوبة لأي عملية من هذا النوع ،مقدمة مبررات مقنعة نسبيا للخارج من خلال تذكير الرأي العام الأوربي بأن العملية استهدفت المجموعة التي قتلت الرهينة الأبراطاني قبل فترة وترفض حاليا إعطاء معلومات عن الرهينة الفرنسي "جيرمانو" دون الجزم بأنها من يحتجزه لما لذلك من تداعيات سياسية خطيرة.
وتبدو الرواية الموريتانية للأحداث أقرب إلي عملية تسويق "فاشلة" لا تغطي علي استخدام الأراضي الموريتاني كمنصة لتصفية الحسابات القائمة بين الرئيس الفرنسي نيكولا "ساركوزي" وكتيبة الملثمين بقيادة عبد الحميد أبو زيد بل لتخفيف حدة الغضب المتصاعد من أطراف المشهد السياسي بسبب تزايد نفوذ الفرنسيين داخل البلاد.
ولم تقف السلطات الموريتانية مكتوفة الأيدي رغم ترددها لساعات طويلة ،بل كان المسوغ جاهزا وقريبا "هجوم وشيك علي وحدة عسكرية موريتانية متمركزة بمدينة "باسكنو" كانت القاعدة تنوي القيام به نهاية الشهر الجاري".
وبغض النظر عن دقة الرواية الرسمية أو الطرح السائد في أوساط النخبة فإن نواكشوط بمعركتها الحالية قد دخلت منعطفا بالغ الخطورة ليس علي المستوي العسكري فحسب بل علي المستوي السياسي شبيه بما عاشته البلاد بداية عقد ها المنصرم في ظل عدو خارجي متربص،وجبهة داخلية هشة وقوي خارجية تضغط من أجل تحقيق مصالحها الذاتية بغض النظر عن تداعيات الأمور.