يسأل نازي متحمس رفيقه: "كيف تجعلون الشعب يقبل دون تذمر، أشياء كان يرفضها بالأمس؟"،
يرد عليه الرفيق: "هل ترى تلك القطة التي تتشمس هناك، لنفترض أنك تريد أن تطعمها ملعقة كبيرة من هذا الخردل la Moutarde أحبت هي الأمر أم كرهته، ماذا تفعل؟"،
يجيبه الرجل: "بسيطة، أفتح فمها وافرغ فيه الملعقة وأجعلها تبتلع الخردل كله غصبا عنها"،
يرد عليه الرفيق بنبرة ساخرة: "غلط، يا عزيزي...أنظر:"،
يقفز برشاقة من مقعده، يأخذ ملعقة كبيرة من الخردل، ويلصقها في لمح البصر بمؤخرة القطة البائسة، التي من هول الفاجعة وفظاعة الألم، تحاول على الفور أن تلعق الخردل كله،
ثم يلتف إلى صاحبه ويقول له في لهجة منتصرة: "كما ترى يا عزيزي، ها هي الآن تلتهم الخردل وبكامل إرادتها"،
هذه السخرية المريرة وهذه الصورة المؤلمة والمحزنة للغاية، هي مشهد من مسرحية للشاعر والمسرحي الألماني الرائع "بريخت"، عنوانها: "تسعة وتسعون في المائة، الخوف والرعب في المجتمع الألماني"،
يروي لنا "بريخت" بأسلوبه الشيق وببساطة شديدة، يوميات الاستبداد وما يصنعه هذا "الطاعون" بالإنسان، وكيف يعري كل الأشياء القبيحة والدميمة داخله ويحوله إلى حيوان مفترس، لكن المدهش في الأمر حقا، هو أن "بريخت" يفعل ذلك كله، بآنية وراهنية مستفزة وموغلة للغاية في تفاصيل أوجاعنا،
الاستبداد هو الاستبداد والطغيان هو الطغيان، تعددت الأسماء والخردل واحد:
بدأ جان بيديل بوكاسا حياته مجندا في فرقة القناصة السنغاليين، وعندما رقي إلى رتبة عريف كاد يجن جنونه من شدة الفرح، كان يقول لرفاق السلاح إن حلمه الوحيد، هو أن يصبح صاحب قهوة في إحدى جادات باريس (كان يحمل الجنسية الفرنسية)، وأن يراقص الشقراوات في أماسي الآحاد،
حين نالت جمهورية وسط إفريقيا استقلالها في ستينيات القرن المنصرم، لم يكن لها من الضباط سواه، فولاه الفرنسيون شأن الجيش الناشئ، سرعان ما سيدفن الملازم الشاب حلمه القديم ذاك، ويهجر كل المقاهي التي كان يرتادها، حتى لا تذكره به،
...في فجر يوم السبت31 دجمبر 1966، سيستيقظ الرئيس دافيد داكو، على ابن عمه بوكاسا وقد غرز خرطوم بندقيته الرطب في عنقه، سينتزع بوكاسا رئيس جمهورية وسط إفريقيا المنتخب، دافيد داكو، من سرير نومه ويرسله بعيدا إلى غياهب المنافي والسجون، بينما سيأخذ هو البلاد معه إلى سنوات طويلة من المجهول،
حين سئل في اليوم التالي، ما إذا كان انقلابه خيانة لصلة القربى التي تربطه بالرئيس المخلوع، رد بحماسة شديدة، أن تحرير شعبه من مخالب "الطاغية!" أولى من أي اعتبار آخر، موبوتو أيضا قال مثل قولته تلك، فزعم أنه كان يخلص الكونغوليين من براثن الاستعمار، هو الذي أمضي جل وقته في عواصم الغرب، يحتسي الشمبانيا ويأكل الكافيار ويتحسس أجساد الشقراوات، هناك شيفرة مشتركة بين جميع المستبدين والطغاة،
أفرغ بوكاسا كل ما جعبته من خردل رخيص على مؤخرات شعبه وسامهم سوء العذاب، كان حكمه أثقل من الذباب ومن كل أنواع البعوض، نصب نفسه رئيسا مدى الحياة، منح نفسه رتبة مارشال، استولى على أحلام الناس وأقواتهم، ثم تمادى في إهانة شعبه فتوج نفسه إمبراطورا على البلاد، في حفل أراد أن يباهي به حفل تتويج نابليون الأول في كنيسة نوتردام بباريس، وأن يتذكره العالم لألف سنة قادمة، كما كان يسر لبطانته،
سيكلف ذلك الحفل الباذخ جدا والبائس جدا ربع ميزانية بلد يعيش تحت خط الفقر، ستجلب كل تفاصيله حتى أصغرها من أكبر دور الموضة في باريس، ولن يكون به ما يدل على البلد الإفريقي، سوى فرقة من الأقزام نصف عراة، يؤدون رقصة بلهاء على قارعة الطريق، والدهشة تكاد تقطر من عيونهم الصغيرة،
وإذ يتمادى بوكاسا في تهريجه ويبلغ به غيه السياسي مبلغا لا يحتمل، يقوم ابن العم جيسكار، le cousin Giscard كما كان يحلو له هو أن يدعوه، بإرسال فرقة من الجيش الفرنسي، كانت تتشمس في الباحات الخلفية، فتجتث الإمبراطور وترميه خرقة بالية داخل مزابل التاريخ،
رحل الطاغية، لكن من سوء حظ هذه القارة، أنها لم تبتلى ببوكاسا واحد فقط، ففي كل شبر منها نبت بوكاسا، وفي كل قصر بها عاشت نسخة رديئة من المارشال الإمبراطور:
لم يكن القذافي بحاجة لأن ينصب نفسه رئيسا مدى الحياة كما فعل بوكاسا، فقد كان يعتقد أنه سيحكم البلاد والعباد حتى بعد موته، ولم يكن بحاجة لأن يتوج نفسه إمبراطورا كما فعل بوكاسا، فقد كان يؤمن حقا بأنه هو ملك ملوك إفريقيا، ولم يكن بحاجة لأن يمنح نفسه رتبة مارشال كما فعل العريف بوكاسا، فقد كان يعلم أن نياشينه تتفوق على أعلى رتب أجناد الأرض،
روي أنه في صيف 2009، حين قرر العقيد أن يضع صورة عمر المختار مخفورا بمجموعة من سجانيه الطليان على سترته، خلال زيارته لروما، لم يجدوا مكانا يضعون فيه تلك الصورة من كثرة نياشين العقيد، ولم يجرؤ أحد أن ينزع منها نيشانا واحدا حتى لا تنتزع معه روحه، فكان الحل الوحيد هو طلب سترة جديدة وبمقاسات أكبر،
وهكذا سافر شهيد الثورة الليبية إلى إيطاليا مخفورا، ليس بسجانيه الطليان فحسب، وإنما بنياشين العقيد أيضا، كان على عمر المختار، أن يعرف هو الآخر، أن ضحالات كثيرة نبتت في ليبيا خلال غيابه،
رحل الطاغية، لكن من سوء حظ هذه القارة، أنها لم تبتلى ب"زعيم" واحد فقط، ففي كل شبر منها نبت "زعيم"، وفي كل قصر بها عاشت نسخة رديئة من "أبو النياشين"...
وهو يكتب نصه من منفاه، بعيدا عن الديار وعن أضواء مسارح برلين الساطعة، لم يكن "بريخت" يطلق صرخة من أجل وطنه وشعبه فحسب، بل كان يفعل ذلك من أجل كل المقهورين في هذه الدنيا الواسعة، ولم يكن يعري ويفضح النازيين فقط، بل كان يفعل ذلك بكل الطغاة والمستبدين والمتغولين على شعوبهم،
صورة الفتى النازي وهو يمارس ساديته المقيتة، على قطة مسكينة تتشمس في طرقات برلين، هو مشهد يختزل صور كل الطغاة والمستبدين والمتغولين على شعوبهم، حين يأخذون الأوطان إلى نهايات أوهامهم ونزواتهم وغرائزهم، تماما كما فعل بوكاسا وفعل موبوتو وفعل القذافي وفعل زين العابدين وفعل جامى وفعل آخرون...تعددت الأسماء والخردل واحد،
الطغيان هو الطغيان، لا وطن ولا زمن له، لكن عاقبته دائما وخيمة، حتى ولو طال دهره،
العبرة في النهايات: سقط الفوهر وسقط المارشال وسقط الإمبراطور وسقط الزين وسقط الزعيم وسقط الحاج، وسقط من قبلهم ومن بعدهم قوم كثيرون، سقط الجميع...تماما كما تسقط الثمرة الفاسدة.