تزداد الأزمة السياسية في موريتانيا تعقيدا يوما بعد يوم وتشتبك خيوطها اشتباكا يصعب معه على المراقب رؤية ضوء في آخر نفق الواقع المأزوم.
التوجه نحو "شرعية الواقع"
فمن جهة هناك السلطة الجديدة التي تتقدم كل يوم خطوة نحو اكتساب شرعية الأمر الواقع"، ليكون على الآخرين في الداخل والخارج التعامل معها في نهاية المطاف، صيغة واحدة متاحة للدولة الموريتانية، أو نظامها الحاكم في الظروف الراهنة.
وقد نطقت كل الإجراءات المتخذة منذ السادس من أغسطس بما يحاول الحكام الجدد تقديمه كحقيقة واحدة لا ثانية لها، فجاءت الدعوة إلى الدورة الطارئة للبرلمان- التي "دبر أمرها بليل" الميثاق الدستوري المنظم لعمل المجلس الأعلى للدولة- لترسخ ما يراد أن يكون وحده حقيقة المشهد وهو استمرار المؤسسات الدستورية في ظل النظام الجديد متزاوجة مع بدلات العسكر، بل أريد أكثر من ذلك أن تستأنف الأمور من حيث توقفت قبل الإطاحة بولد الشيخ عبد الله، فاستمر جدول الأعمال هو ذاته دون أي تغيير. ثم سمي وزير أول أوكلت إليه مهمة تشكيل الحكومة "بالتشاور مع جميع الفرقاء السياسيين" وعين بعض الموظفين السامين في الدولة، أغلبهم في قطاع الإعلام. (الإذاعة، التلفزيون، الوكالة الموريتانية للأنباء...).
وفي خلفية هذا المشهد تتحرك المجموعة السياسية الدائرة في فلك المجلس الأعلى للدولة، و"جناح الموالاة" السابقة- الحالية، فيها بالذات حركة دائبة، وإن لم تتجاوز في الغالب تنفيذ التوجيهات والأوامر، وبعض المبادرات الدائرة في حلقة مفرغة من التصريحات والبيانات والمظاهرات والطاولات المستديرة، تسيء إلى الحكام الجدد من حيث أرادت الإحسان، وكأنها لفرط الغباء استئناف للزمن من حيث توقف ذات صباح من حكم الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع.
موقف اللا موقف
ويؤثث المشهد من زاوية أخرى مجموعة أحزاب مؤسسة المعارضة، على تفاوت في المواقف، التي بدأت في التصدع بعد أن أعلن التكتل والتحالف من أجل العدالة والديمقراطية عدم المشاركة في الحكومة ويرجح تريث حزب "حاتم" حتى تتضح الصورة أكثر، وربما لا يلتحق بهما إطلاقا بفعل عوامل ليس هنا مكان شرحها، وإن كان العنوان الأبرز أو الذي سيكون بارزا، على الأصح، هو المواقف المتغايرة من موضوع الرئاسيات، توقيتا ومرشحين، وهي المحدد الأبرز لموقف التكتل، على تغاير بين العاملين ودورهما، وليست كذلك بالنسبة لولد حننا، وفي منطقة وسط يقف مرشح الرئاسيات مختار إبراهيما صار، الأقرب دائما إلى ولد داداه.
ومن المتوقع أن يحتفظ هذا الأخير بـ"موقف اللا موقف" بأن يظل محافظا على شعرة مع ولد عبد العزيز عبر عنها أكثر مرة بقوله إنه "يثق كل الثقة في كلام ولد عبد العزيز" ولن يصدح بإدانة علنية للانقلاب، ما طمع بـ"شوط رئاسي ثالث" (كما كان يتندر الرئيس المطاح به) في أفق انتهاء مأمورية ولد الشيخ عبد الله أي حوالي ثلاث سنوات ونصف.
مناوأة بمستويات عدة
ومن جهة أخرى هناك المعارضون للانقلاب تتصدرهم الجبهة التي ينضوي تحتها خليط من أصحاب المشاريع المتناقضة: اليساريون، والحر، والإسلاميون، وخليط من أغلبية ولد الشيخ عبد الله متعدد المشارب، ينتمي أغلبه للحلقة الضيقة في نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع.
ظاهريا يبدو هذا الخليط منسجما واضح الأهداف محددها؛ فهو يدعو إلى إعادة سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله وعودة الجيش إلى ثكناته، ويذهب أبعد إذ يدعو إلى تغيير دستوري يضمن إبعاد العسكريين عن السياسة (ضمنت المذكرة التي وزعتها الجبهة فقرة تدعو إلى اعتبار القيام بانقلاب عسكري "خيانة عظمى")، وهذا الوضوح والانسجام الظاهري يخفي وراءه اختلافا في مسويات التمسك بهذه الأهداف تفصيلا؛ فهناك من داخل الجبهة من يراهن على عودة ولد الشيخ عبد الله باعتبارها ضمانة حقيقية لاستمرار بعض المكاسب المتحققة له واقعا أو أملا، وهناك، فريق، وربما يكون أغلبية، تعلن تمسكها بولد الشيخ عبد الله عنوانا للمعركة، وحدا أعلى، وهي في الواقع، وبحكم الواقعية السياسية، وربما حكمتها أيضا، تدرك أن عودة ولد الشيخ عبد الله باتت أقرب إلى المستحيل، لكنها في المقابل متمسكة برحيل ولد عبد العزيز، وتنظر إلى الموضوع من ناحية استراتيجية يبدو من الصعب التنازل عنها ما بقي من ميزان القوة ما يمكن الركون إليه ولو ضعيفا.
فبأي وجهة نسير ؟
بصيغة أخرى: أي المعسكرين سينتصر وأي البرنامجين يتقدم؟
ما من شك في أن الوقت ما زال مبكرا على التنبؤ بمآلات الأمور على نحو يسمح برسم سيناريوهات يمكن الجزم برجحان أحدها وتوافر الظروف الموضوعية لتحققه، إلا أن صيرورة الأمور، ومنطق الواقع، وتطور الأشياء، تسير ناحية أحد ثلاثة مسارات الأرجح أن ترسو سفينة الأحداث على أحدها، دون استبعاد أن تندرج كلها، أو اثنان منها، أو حتى ندمج عناصر من ثالثها في خلطة تفاجئ المراقبين للأحداث كما عودتهم الساحة الموريتانية على مجانفة التوقعات:
روافع الاستمرار
أولا: استمرار الحال على ما هو عليه الآن، باختلاف في التفاصيل يقتضيه تفرضه إكراهات واقع تسيير البلاد بتناقضات الحكم برأس عسكري وجسم مدني، وهذا هو السيناريو الذي يميل إليه الآن مخططو المجلس الأعلى للدولة، ولهذا السيناريو مجموعة "روافع" يمكن أن تمنحه زادا لاستمرار يطول ويقصر بحسب قوة الدفع وحصافة الإجراءات التي يتخذها المجلس وصيغها الإخراجية بالذات، في العلاقة بين الدولة والمواطن، وعلاقة المجلس بالمجموعة الدولية، ومدى قدرته على تفكيك جبهة الرفض الداخلية والخارجية، وأهم هذه الروافع هو:
- قوة الأمر الواقع، فقد بات حكم موريتانيا اليوم من طرف المجلس الأعلى للدولة الذي يرأسه محمد ولد عبد العزيز "أمرا واقعا"، وهي صفة تمنح الكثير من الأسهم في شعب لم يألف النضال السياسي طويل النفس، ولم تتعود نخبه مجافاة مراكز القوة داخل السلطة الحاكمة أيا تكن هويتها، وهي من هذه الزاوية ورقة رابحة في مواجهة المنتظم الدولي الذي يرغب أن يكون جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة، وملحقاتها المتعلقة بالاستقرار والاستثمار وملفات الهجرة السرية والإرهاب...
- المؤسسة العسكرية التي تبدو لحد الساعة متماسكة خلف قيادتها المنقلبة على النظام المدني، ويعني هذا التماسك، إن استمر، أن المهدد الحقيقي الوحيد للمجلس الأعلى للدولة يقف على الحياد إن لم يكن داعما، كما يعني أن أحد أهم أركان العلاقة بالدول الغربية وبالذات فرنسا ذات الدور الحاسم في توجيه الموقف الدولي، والأوروبي، وحتى الإقليمي، الانقلاب، أن هذا الركن ما يزال قائما، وإن لم يكن فاعلا في الوقت الراهن. أفتح هنا قوسا لأقول إنما تسرب من لقاءات ولد الشيخ عبد الله بالسفراء الغربيين كان يشي بتمسك غربي بالمؤسسة العسكرية الموريتانية باعتبارها "المؤسسة الوحيدة المنظمة في موريتانيا" كما نقل عن السفير الفرنسي بنواكشوط.
- وهناك مجموعة من السياسيين، وهم وإن مثلوا نقطة غير ناصعة البياض في لوحة المؤيدين للانقلاب العسكري، إلا أن زخمهم الإعلامي والمواقع التي يحتلونها (يمثلون أكثر من نصف أعضاء غرفتي البرلمان) وحنكة بعضهم السياسية، وألمعية آخرين إعلاميا، تجعل منهم ورقة قابلة للاستغلال في الترويج للانقلاب وإعطائه زخما.
عودة ولد الشيخ عبد الله.. الحل المستحيل
ثانيا: عودة ولد الشيخ عبد الله، وهي وإن بدت مستبعدة بحكم مجموعة من العوامل، إلا أن ورودها احتمالا يبقى واردا خصوصا مع التطور الدرامي للأحداث، خصوصا وهي العنوان الأبرز في أجندة العودة إلى النظام الديمقراطي، ولها مع ذلك حوافز لعل أبرزها:
- سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله هو الرئيس الموريتاني المنتخب انتخابا قبلت به كل الأطراف على اختلاف في الدوافع، والمسوغات، وانعقد الإجماع على سلامته الفنية، وقبل به الساسة باعتباره حدا أدنى من الديمقراطية يجب السعي إلى توسيعه والاستفادة منه بدل معارضته والوقوف في وجهه. وبهذه الصفة، تكون العودة إلى ما قبل السادس من أغسطس تعني حصريا إعادة ولد الشيخ عبد الله إلى سدة الحكم، وفي هذه الحال يبقى السؤال: هل ستكون العودة إلى ما قبل فجر السادس من أغسطس، أم إلى ما بعد فجر نفس اليوم؟
- وهناك القوى السياسية التي تعودت مقارعة الأنظمة السياسية، بل وإزاحتها أحيانا تحالفا مع انقلابيين وتوفيرا لظروف مواتية للإطاحة بسلط قائمة. وهي في غالبيتها الساحقة منضوية في "الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية"، وتملك أجندة قائمة على التصعيد المستمر والضغط الشعبي ذي النفس الطويل والمتدرج، إضافة إلى إعطاء المواقف الدولية الزخم الإعلامي الكفيل بتحويلها إلى وسيلة ضغط نفسي، وتعبئة شعبية، دون انتظار آثارها الاقتصادية والسياسية.
- وثمة الموقف الدولي الذي يتمسك، حتى الآن، على استحياء، بعودة ولد الشيخ عبد الله رئيسا لموريتانيا. ورغم العُوار الشديد في هذا الموقف، لارتهانه للمصالح أكثر من تشبثه بالمبادئ إلا أنه يمثل "ضوءا أخضر" لمجموعات الضغط في الداخل والخارج، والمنتظرين هنا وهناك لمركز قوة يمكن الركون إليه، وتشير ملامح بعض الوجوه المتناثرة في جبهة الرفض إلى همة للفرنسيين تحديدا في التراجع عن الانقلاب بصيغة من الصيغ، دون أن تتحدد بشكل صارم في عودة ولد الشيخ عبد الله.
وفي كل الأحوال فإن الغربيين عموما والفرنسيين خصوصا لا يريدون، غالبا، نظاما قويا متحكما في كل مفاصل الدولة، ويستحضرون تجربة الفرنسيين مع الرئيس ولد الطايع الذي فرض على العسكريين الفرنسيين – نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي- طبع التأشيرة الموريتانية على جوازات سفرهم كلما أرادوا زيارة مستعمرتهم السابقة، مستغنيا في ذات الوقت عن خدمات عشرات الضباط الفرنسيين الذين عملوا في موريتانيا لمدة طويلة.
الطريق الثالث
ثالثا: خلق وضع جديد يزيح ولد عبد العزيز ولا يعيد ولد الشيخ عبد الله، وهو السيناريو الذي سيحظى بقبول الجميع لو وقع، لكن ما يصده من العوائق أكثر مما يقف ضد انتصار أحد الخيارين السابقين، وهو سيشكل هزيمة لولد عبد العزيز ما لم يكن التفافا، خارجا من عباءته، كما لن يكون انتصارا كاملا لـ"معسكر ولد الشيخ عبد الله"، ويمكن تحقق مثل هذا السيناريو فيما لو استمر العسكريون في موقفهم الرافض لعودة ولد الشيخ عبد الله- وهو أمر أكثر من وارد، إن لم يصل إلى درجة الحتمية- واستمر المعسكر المناوئ لهم خارجيا وداخليا بالضغط المكثف سياسيا واقتصاديا، لدرجة أن أصبح غير متاح لهم الاستمرار من غير الدخول في عزلة دولية يصاحبها قمع للقوى السياسية في الداخل وتضييق في الحريات العامة مصحوبا بواقع اقتصادي واجتماعي غير مرض يتوقعه الكثيرون في قابل الأيام. وساعتها سيكون أي مخرج يضمن لقادة الانقلاب "مكانة" و"مواقع" من غير أن يمكن ولد الشيخ عبد الله من العودة لاستكمال مأموريته الرئاسية، سيكون مثل هذا المخرج محل قبول من غالبية الأطراف، على اختلاف في الدوافع ودرجات القبول أو التفهم، ما يضمن له "شرعية سياسية" و"قبولا قانونيا" يؤدي إلى اعتماده كحل لمعضلة لا أحد يرغب في استمرارها، ولا أحد يمكنه الإبقاء عليها في حدود المتحكم فيه.
بعد هذه السيناريوهات الثلاث تأتي مآلات أخرى ليست في مرمى المتوقعين لغياب المعطيات الكافية للحديث حول إمكانها من عدمه، مثل الانقلابات العسكرية، والتصدعات داخل المجلس العسكري الحاكم، وحجم وحقيقة الأوراق التي يملكها كل الأطراف، وفي كل الأحوال فإن أي نوع من أنواع الفشل يتعرض له الانقلاب الحالي سيكون سدا حائلا أما أي انقلاب قادم، وأغلب الظن أن يكون انقلاب موريتانيا الأول (من حيث شكل الشرعية المنقلب عليها) هو انقلاب موريتانيا الأخير، وهذا مرتبط بمدى كفاءة القوى السياسية الموريتانية وقدرتها على الاستفادة من أخطائها في المرحلة الانتقالية التي قادها المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية بعد الإطاحة بنظام ولد الطايع فجر الثالث من أغسطس سنة 2005.