في اللحظات الحرجة من تاريخ الأوطان يغدوا السكوت عن الجهر بالحق سلوكا مشينا يرقى لحد الخيانة العظمى ، صحيح قد يكون الكلام الصريح عن الأسباب الحقيقية للوضع المتأزم الذي تعيشه البلاد عملا مكلفا ومحرجا في بعض الأحيان لكنه يبقى على كل حال أمرا لا مفر منه في مثل هذه الأوقات العصيبة التي تكون فيها وحدة الوطن و استقراره وسيادته واستقلاله عرضة للخطر.
لقد مثل انقلاب السادس من أغسطس 2008م علامة فارقة في تاريخ موريتانيا الحديثة سيكون لها ما بعدها لما كشفت عنه- دفعة واحدة- من معطيات ومؤشرات أصبح من الواجب مواجهتها بما تفرضه من تحديات لم يعد تجاوزها واردا ولا تأجيل الحسم فيها ممكنا، وقد آن الأوان لتناولها بصراحة تامة لعل ذلك يسهم في فتح نقاش حول جملة من التحديات التي باتت تهدد مستقبل شعب طيب ووطن عزيز.
تركز السلطة والثروة
من الأدواء المميتة التي أبان عنها انقلاب السادس من أغسطس وبرزت بشكل جلي لا لبس فيه هي مشكل تركز السلطة والثروة في جهة موريتانية واحدة، وهو الأمر الذي بات يمثل خطرا حقيقيا على استقرار البلد وآماله المشروعة في التنمية والديمقراطية، لقد شهدت الثلاثون سنة الماضية من تاريخ البلد عمليات تركيز منظم للسلطة والثروة في يد النخب المنحدرة من شمال البلاد، وقد خلف ذلك العمل غير الشرعي تغول جزء من النخبة الوطنية على بقية الأجزاء بفعل الهيمنة المحكمة على كل شيء في البلد حتى غدا من الواضح للعيان رؤية واقع يتمثل في وجود دائرة حاكمة ودوائر محكوم بها. إن هذا التغول الذي شهدته هذه النخبة أوجد عندها قناعة بحتمية البقاء في السلطة والمحافظة على الأمتيازات المتحصل عليها، مهما كلف الأمر، والعمل على إفراغ العملية الديمقراطية من مضمونها التغييري التداولي عبر التحكم في النخب وجماهير الشعب من خلال أدوات الإكراه ووسائل الإغراء التي يحوز من يهيمن على السلطة والثروة، لقد كانت الحالة اليتيمة التي سمح فيها لأحد من خارج هذه النخبة في الوصول للسلطة هي حالة الرئيس ولدالشيخ عبدالله الذي اختير وفق أسس و خلفيات معروفة للعب دور موظف علاقات عامة لصالح هذه المجموعة وليس العسكرالمظلوم، وعندما بدأ الرئيس يتجه نحو القيام بمسؤولياته وبناء نظامه الخاص كان لابد وفق العقلية التي ينطلق منها هؤلاء من وضع حد له، و التوجه لبناء نظام عسكري مباشر ريثما يتم الترتيب لإلباس هذا الحكم لبوسا ديمقراطيا، على نحو قريب من نموذج نظام ولد الطايع الذي يبقى المثال الأعلى في مخيلة هذه النخبة من دون أن تأخذ في الحسبان الفروق الكبيرة بين تاريخ انقلاب 12-12- 84م و انقلاب 06 أغسطس 2008م إن هذه الحقيقة الصادمة تجعل الحديث عن الديمقراطية والتدول السلمي على السلطة وحق الشعب في الاختيار الحر والتوافق على ميثاق دستوري ملزم مجرد كلمات جوفاء لا تلزم سوى الحالمين بها، لكن الطريق إليها بات واضحا والوصول إليها ممكنا أكثر من أي وقت مضى لقد كشف انقلاب السادس من أغسطس عن هذه الهيمنة الجهوية بشكل فج لايراعي مصالح البلاد ولايقدر ضرورات الإجماع الوطني ولايحترم قواعد اللعبة وهو ما يمثل بكل تأكيد لحظة انعطاف استراتيجي في تاريخ البلد قد تؤدي لاعتراف بهذا الواقع وهو الأمر المستبعد، وقد تكون فاتحة لمجموعة من التحولات العميقة التي قد تفضي لديمقراطية حقيقية تحفظ للبلد وحدته واستقراره وقد تفضي لفوضى وتنازع لا يخدم سوى أعداء الوطن.
دولة البيضان أم دولة موريتان
لقد كان من خفايا انقلاب السادس من أغسطس الموقف السلبي لبعض القوى والمجموعات المعروفة بمواقفها المتطرفة ضد بقية المكونات الوطنية ، والتي رأت في الخطوات التي أقدم عليها الرئيس ولد الشيخ عبد الله في شأن المصالحة الوطنية وتعزيز اللحمة بين أبناء البلد الواحد عبر تسوية ملفات الإرث الإنساني وعودة المهجرين ،أمرا مرفوضا لا يجوز القبول به. إن هذه النخب المتضامنة اليوم في سبيل إعاقة مشروع المصالحة الوطنية والوئام المجتمعي تحت تأثير أفكار قومية ضيقة تخفي وراءها سلوكا جشعا وتفكيرا غبيا تمثل خطرا حقيقيا على وحدة واستقرار البلد وهي بمواقفها هذه لاتخدم في الحقيقة –كما فعلت في الماضي - غير نظم نفعية لا هوية لها ولا قضية تعمل وفق سياسة "فرق تسد" لضمان تأمين ما حققته من سطوة ونفوذ. إن موريتانيا بلد ذو تركيبة سكانية خاصة، وهو حديث العهد بالدولة وتاريخه القصير نسبيا شهد هزات عنيفة جديرة بالاعتبار وهو بالإضافة إلى ذلك يقع في مجال جغرافي مضطرب من دارفور إلى أزواد وليس في مصلحته إلا الوفاق الوطني وتعزيز اللحمة بين أبناء البلد الواحد والتعامل مع واقعه بعقل منفتح وروح استيعابية وحس وطني مرهف بما يحقق الوئام المجتمعي ويصون الحقوق ويجنب البلاد شرور الفتن الداخلية وغوائل التدخلات الأجنبية. وأعتقد أن ما يجري اليوم من تعطيل لسيرالمصالحة الوطنية وتجاوز غير مسؤول للتواصل مع شريحة الحراطين يمثل لحظة انعطاف استراتيجي حقيقي قد تقود لتوازنات جديدة كانت منتظرة بمنطق سنن التدافع البشري مما سيخلق واقعا جديدا يخسر فيه المتطرفون كل شيئ.
الموقف المغربي بين الربح والخسارة
كشف انقلاب السادس من أغسطس بشكل جلي عن حجم التورط المغربي في الشأن الداخلي الموريتاني وهو ما ينذر بشر مستطير على وحدة البلد واستقراره واستقلال قراره السياسي، ويمكن فهم خطورة هذا التدخل من خلال استعراض صفحات من تاريخ العلاقة بين المغرب وموريتانيا وهو التاريخ الذي ينبغي استحضاره بقوة في مثل هذه الظروف. لقد وقف المغرب في نهاية الخمسينات ضد مشروع الدولة الموريتانية الناشئة الذي كانت فرنسا وبعض النخب الوطنية تدفع باتجاهه وكان المغرب في هذه المرحلة يعتبر موريتانيا جزءا لا يتجزأ من المغرب التاريخي، وشهدت هذه الفترة تورط المغرب في الكثير من أعمال العنف في موريتانيا حينها بل بلغ الأمرسنة 1963م حد التفكيرفي غزو عسكري مباشر لموريتانيا كما ذكر الوزيرالأول المغربي الأسبق عبد اللطيف الفيلالي في مذكراته التي صدرت مؤخرا، و لم يمنع المغرب من القيام بمغامرته هذه إلا غياب التواصل الجغرافي مع موريتانيا بسبب وجود الصحراء الغربية حينها تحت سيطرة الإسبان ورفض الجزائر لطلب المغرب السماح له بالعبور من منطقة تيندوف كما ذكر الرئيس المختار في مذكراته نقلا عن الرئيس الجزائري هواري بومدين. ولم يعترف المغرب باستقلال موريتانيا إلا بعد مرور تسع سنوات على هذا الاستقلال بعد أن منيت جميع رهاناته في الداخل والخارج بفشل ذريع، ثم كان الاعتراف سنة 1969م الذي استبشر به سكان المنطقة لوضع حد للصراعات غير الضرورية بين الأشقاء الجيران لكن المغرب سرعان ما استغل بساطة وطيبة القيادة الموريتانية ليوقعها في فخ تقسيم الصحراء الغربية من خلال اتفاقية مدريد نوفمبر1975م التي مثلت الشرارة التي أطلقت حرب الصحراء التي دمرت ما تم إنجازه في موريتانيا خلال 15عاما من الاستقلال وحولت البلد إلا ساحة تصفية حسابات بين الجزائر والمغرب وجعلت موريتانيا تعيش في أجواء حرب أهلية حقيقية بينما كان المغرب هوالرابح الأكبر فقد كسب الأرض والثروات بينما كانت موريتانيا هي من يدفع الفاتورة الكبرى كونها الحلقة الأضعف في الصراع وبعد انقلاب العاشرمن يوليو1978م وانسحاب القوات المغربية من موريتانيا ظل المغرب متورط في الشأن الموريتاني ساعيا لنصب نظام قريب منه وكانت المحاولة الأولى له في هذا الصدد هي انقلاب السادس من إبريل 1979م وبعد فشل تلك المحاولة كانت المحاولة الثانية مع انقلاب 16 مارس 1981م وبعد فشلها هي الأخرى بدأ الترتيب لانقلاب ولد الطايع الذي كان للمغرب دور بارز في اختياره وفق أسس معينة ولكن ولد الطايع وللأمانة التاريخية خيب آمال المغرب ولم يتحول إلى رجل المغرب في موريتانيا ويعود ذلك لسببين اثنين أولهما ما يعرف عن ولد الطايع من تعلق بمبدأ السيادة الوطنية والسبب الثاني أن ولد الطايع كان يمثل في تنكره للمغرب موقفا استراتيجيا فرنسيا يقضي برفض هيمنة المغرب على القرار في موريتانيا، وربما يكون هذا الموقف الاستراتيجي الفرنسي هو الخلفية التي تحكم الموقف الفرنسي الحالي المتشدد ضد انقلاب السادس من أغسطس الذي يوصف في الأوساط الداخلية والإقليمية بأن المغرب هو من يقف خلفه. إنه بناء على الخلفية التاريخية آنفة الذكر وبناء على الطبيعة الخاصة للتركيبة السكانية للبلاد وفي ظل وجود مشكل الصحراء الغربية وما يمثل من حساسية فإن التورط المغربي في الشأن الداخلي لموريتانيا ينذر بمخاطر حقيقية لما قد يجره من تصدع في جدار الوحدة الوطنية وما يسببه من استقطاب إقليمي ينذر بتحويل البلاد مرة أخرى إلى ساحة تجاذبات داخلية ذات أبعاد إقليمية إن ما يجري من تحالف بين النظام القائم والمغرب يمثل لحظة انعطاف تاريخي حقيقي في مسار الدولة الموريتانية وبقدر ما يبدوا المغرب قد كسب الجولة الأولى في هذا الاتجاه فإن تحديات كبيرة لا تزال أمامه لاسيما في ظل حالة التشظي الذي تعيشه جبهة الحلفاء التقليديين للمغرب في موريتانيا وما تشهده من انقسام عززه موقف المغرب المنحاز لفريق منها دون الآخر، بالإضافة إلى التمزق الذي يشهده محور باريس - الرباط - دكار التاريخي والذي تسود بين أطرفه حرب صامته.
الطريق إلى الحل
لخص الشيخ محفوظ نحناح مشكلة الجزائر توصيفا دقيقيا في كتابه الذي حمل خلاصة التوصيف " الجزائر المنشودة والحلقة المفقودة الإسلام والوطنية والديمقراطية"، وهي بالضبط الحلقة المفقودة في واقعنا السياسي الموريتاني فنحن بحاجة إلى الاستعصام بمرجعيتنا الإسلامية التي تحقق لنا الهوية الجامعة وترتقي بتفكيرنا إلى آفاق أرحب وأسمى، والتشبث بالوطنية التي تفرض علينا الولاء للوطن وتقبل التعايش مع أبنائه والعمل معا من أجل خدمته، والتعلق بالديمقراطية التي تنظم الحراك السياسي وتضبط الاختلاف بين أبناء البلد بطريقة سلمية بعيدة عن العنف والإكراه.