إذا كان من حسنات الديمقراطية أنها تحقق التوازن بين أمرين لا غنى عنهما في الدولة الحديثة، وهما تمكين الأفراد من ممارسة حقوق المواطنة، وتمكين الأنظمة من الشرعية في ممارستهم للسلطة والحكم، فإن من مساوئ اللاديمقراطية هدر حقوق المواطنين وغياب القانون والعدل، والأكثر خطورة استغلال الديمقراطية للتلاعب بالديمقراطية. هكذا تفعل بعض الأنظمة، عندما تجوع شعوبها، أو تسجنهم، أو تقتلهم وتبرر ذلك بالقانون أو بالديمقراطية.
إن المشكلة الكبيرة التي نعاني منها كوننا نعيش في الماضي وله، أكثر من الحاضر والمستقبل، وبدل أن ننظر في عدو اليوم ننشغل بأعداء وربما موتى الأمس والأزمنة الغابرة. فِعْلُ العبودية جرم لا يغتفر وعار ووصمة عار وجبن. لكن من ينكر أن هذا الفعل ظل ساري المفعول على العالم من أقصاه إلى أقصاه منذ فجر الديمقراطية المباشرة في أثينا إلى حدود ظهور الدولة الحديثة وتقاليدها المدنية. صحيح أن الأمر تغير نسبيا منذ تبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأنه على الأقل منذ تراجع الاستعمار هناك إجماع للعالم من أقصاه إلى أقصاه على تجريم هذا الفعل المقزز، بل والاستعداد لمحاربته بكل الطرق والوسائل.
بعبارة أخرى إذا كان فعل العبودية ظل مشروعا وممكنا في مرحلة ما قبل، فإنه لم يعد مشروعا في عالمنا ولا ممكنا. إن الحديث عن العبودية في موريتانيا ليس الهدف منه إثباتها أو نفيها كما قد يفهم؛ وإنما الهدف هو أن مفهوم العبودية نفسه لم يعد كما كان، بحكم التفاعل المستمر في المكان والزمان والإنسان الذي لا يخضع لإرادة سيد أو عبد.
أما تاريخيا فالعبودية في موريتانيا لم تظهر نتيجة لنشاط استعماري مثل ما حصل في جنوب إفريقيا البلد الديمقراطي منذ إسقاط النظام العنصري، أو في بلد كالولايات المتحدة إحدى الديمقراطيات الراسخة تاريخيا، أو البرازيل وغيرها. وإنما جاءت نتيجة لنظام اجتماعي على الأرجح أن فكرة الدولة ظلت مرفوضة فيه أو غير مرغوب فيها. فخلال هذه الحقبة التي تميزت ببناء اجتماعي هرمي شرائحي لم تسلم شريحة اجتماعية من شكل من أشكال العبودية أو الاهانة والتهميش وما إلى ذلك. فعلا كانت العبودية أسوأ، ولا شيء أسوأ من استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، أو أن ينظر له بوصفه أقل شأنا مثل ما كان يحدث في الولايات المتحدة بين السود والبيض أو في جنوب إفريقيا.
إلا أنه مما لا شك فيه أن شوكة كيانات ما قبل الدولة وتأثيرها العسكري والاقتصادي والقبلي الذي كان هو الأداة للنفوذ وممارسة العبودية تقلصت مع الاستعمار الذي غير في المعادلة إلى حد ما على مستوى الهرم إلى يومنا هذا. وسيبدأ التراجع في ظل الدولة ابتداء من التجريم الرسمي، مرورا بالمساواة التي فرضها تعميم الفقر، وانتهاء بالضغط الدولي والرقابة الحقوقية التي تمارسها المنظمات المحلية رغم عدم السماح للبعض بالترخيص القانوني حتى الآن.
بثقافة الدولة الحديثة نفي العبودية، فلا يمكن الحديث عن دولة عصرية والحديث عن العبودية. لكنها باقية ولا يمكن أن يمسحها من أذهاننا نصف قرن من الفشل، شعب يأكل بعضه وأنظمة تأكل الأخضر واليابس.
إن المشكل الأساسي ليس في نظام اجتماعي لم يعد لوجوده من مبرر، وإنما في نظام سياسي لا يريد حلا لجميع مشاكل البلد ولا يريد للدولة أن تكون دولة المواطنين الأحرار، ولا يريد حتى هو لنفسه أن يكون نظاما ديمقراطيا شرعيا. فهل فكر يوما هذا النظام على امتداد بطولاته المشرفة له كما يقول (من 2005 إلى 2018) في مصالحة وطنية وحوار مفتوح وجدي مع ضحايا الاسترقاق أو ضحايا المجازر ضد الإنسانية بحق عشرات الزنوج الموريتانيين؟ هل فكر في تعليم يردم المخلفات الثقافية، أو الاقتصادية أو الاجتماعية بين مكونات المجتمع؟ أم أنه نظام في الأصل ناتج عن انقلاب عسكري وهذه الأمور تتعلق بالأنظمة السابقة الانقلابية وهو غير معنيٍّ بها، ولكنه معنيٌّ وفقط بالاستئثار بخيرات البلد.
العبودية باقية لأنها تمارس اليوم بالتلاعب بالديمقراطية في ظل غياب سلطة الشعب، وهي تمارس على جميع الشعب دون استثناء، وهي عبودية سياسية واقتصادية واجتماعية، ولعل أبشع وجه لها معاناة السنتير محمد ولد غدة الذي جاءت به الديمقراطية ممثلا للشعب، وأدخلته السجن!!
إن البحث عن الحرية ليس في الماضي ولا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال، فقانون الزمن هو الحاضر والمستقبل، ووحدة هدف الشعوب وتماسكها أسهل الطرق.