ميثولوجيا شعب الله المختار!! / الحسن مولاي علي

لم يكن هبوط أبينا أدم وزوجه، من جنة الظلال والثمار، والابتلاء والاختبار، إلا نتيجة مباشرة لعنصرية الشيطان ووسوسته وحقده، وما أظهر من العداوة والبغضاء لآدم، يوم رفض مشاركة الملائكة الكرام السجود تكريما له، بأمر الله، وعقد محاججة ومفاضلة باطلة بين عنصر النار الذي خلق منه هو وقبيله، وبين عنصر الطين والصلصال الذي خلق منه آدم؛ وقد أعلنها صراحة في الملأ الأعلى:{ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}

 وبسبب تلك الخطيئة المقيتة، طرد الشيطان الرجيم من رحمة الله، وتبعته اللعنة إلى يوم الدين؛ ولقد طلب من الله الخلود، فأعطاه بقاء ونظِرةً إلى  يوم الوقت المعلوم، وعندئذ تعهد الشيطان بإغواء آدم وذريته أجمعين، إلا المخلصين من عباد الله، وأقسم على ذلك:{ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}، { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}.

على الأرض، ما كان الخلاف بين ابني آدم (هابيل وقابيل) ليتعقد ويتطور بتلك السرعة، في اتجاه جريمة القتل البشعة المكتملة الأركان، لولا وساوس النفس الأمارة بالسوء، وما تسوله لصاحبها من وهْم السمو والتميز عن الأتراب والأقران، ورؤية الفضل على الغير، وصولا إلى ظنون النقاء والاختيار الإلهي، وخصوصية القدرات الذاتية؛ وهي أوهام وظنون وأماني رافقت البشرية، وهي بعد في خطواتها الأولى، بعد هبوطها على كوكب الأرض، وقد مثلت تلك الظنون والأماني على مر العصور وتعاقب الأجيال، البيئة الحاضنة لنشوء وتطور أسطورة "شعب الله المختار" التي حفرت عميقا، في تراث وتقاليد وعقائد ومفاهيم الأمم والأقوام، وشغل الحديث عنها حيزا واسعا من ألواح وزبر الحضارات البشرية البائدة، خاصة فيما بين النهرين، وما وراءهما؛ ولها ومن أجلها، حرفت الديانات وكتبها، وقامت الفلسفات والاتجاهات والمدارس الفكرية، واهتزت أسس التعايش السلمي الأخوي، واستشرت الخلافات، واندلعت الحروب الماحقة.

في آسيا، أكبر قارات العالم، حيث الكثافة السكانية تقارب الـ 70 بالمائة من ساكنة الأرض، وحيث التعددية العرقية بلا مثيل، وحيث الوثنيات البدائية الكبرى تعد آلهتها المعبودة بالملايين؛ تقوم أصول الديانات والفلسفات والأساطير السائدة، على تجسيد التفاضل والاختيار والانتقاء الإلهي، ضمن الصيرورة السرمدية للانتقال والتناسخ بين الآلهة والأشراف والمحاربين والصناع والخدم والمنبوذين والحيوانات؛ في تراتبية مقيتة، أرادها المعبود الأعلى حين عمد إلى أهل العلم والفكر والنظر والفراسة والفلسفة، فخلقهم من رأسه، وجعلهم خيار الناس والطبقة العليا المخدومة؛ ثم خلق أهل البأس والحرب من قبضة  يديه، فهم المقاتلون وأهل الحرب والقيادة والبطولات، ثم تتابع الخلق هبوطا، من مناطق مختلفة من جسم الإله المزعوم، فجاء ت الطبقة الوسطى من التجار والصناع والعمال؛ ثم كانت طبقة الحشم والخدم، بعدهم المنبوذون وأسافل الناس.

وفي تراث الديانات السماوية، تولى الأحبار والرهبان من أهل الكتاب، تأصيل أسطورة "شعب الله المختار" تأصيلا جعلها من صميم الدين عندهم، أو هي الدين نفسه، فكان فيما كتبوا بأيديهم من الكتاب، ثم نسبوه إلى الله جل في علاه - زورا وبهتانا- ليشتروا به ثمنا قليلا، تلك الفرية العظيمة التي فضحهم بها القرآن الكريم، حين قال:{وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه}!، ولأن الأمر يتعلق بالكذب على الله رب الأرباب وعلام الغيوب، فقد علم القرآن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، الحجة البالغة التي تتهاوى بها مزاعم تلك السوءة الاعتقادية الكريهة، فقال تعالى:{قل: فلم يعذبكم بذنوبكم؟} وذلك قبل أن يعلن زيف دعواهم غير المشبهة؛ مستعرضا جانبا من حتمية السنن الإلهية التي لا استثناء فيها، ولا محاباة لأحد:{... بل أنتم بشر ممن خلق... يغفر لمن يشاء.... ويعذب من يشاء... ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير}.

والواقع أن فصولا كثيرة استعرضها القرآن الكريم من كتاب التوراة الذي أنزل على موسى، تحدثت عن اصطفاء الله واختياره لبني إسرائيل على الناس جميعا؛ فقد استعرضت نصوص القرآن مما جاء في التوراة قول الله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} وقول موسى لهم: {يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم انبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين}، وقوله تعالى:{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون}؛ لكن القرآن الكريم تحدث أيضا عن عاقبة كفر قوم موسى، وعن نقضهم للميثاق، واستحقاقهم اللعنة و المذلة والمسكنة، في مثل قوله تعالى:{فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم}، وقوله:{فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف، بل طبع الله عليها بكفرهم..}؛ وقوله:{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم...}

ومن المتابعة البصيرة لسياق، وسباق، ولحاق تلك النصوص المنزلة، بل وكل ما في معناها من النصوص، في أي من كتب الله المنزلة؛ سواء تعلقت بأمة موسى، أو بأمة عيسى، أو بأمة محمد، عليهم جميعا صلاة الله وسلامه؛ من تلك المتابعة يظهر جليا أن الاصطفاء والاختيار الذي تتحدث عنه النصوص، إنما يتعلق- حصريا- بامتحانات التكاليف، واختبارات الفرائض والعزائم، واشتراطات الوفاء بالعهود والمواثيق؛ فمن نجح في تلك الاشتراطات فقد ربح الخيرية والاصطفاء؛ أما من خسر اختبارات الإيمان، أوضيع فروض الله وتكاليفه، أو أخلف الوعد والعهد، أو نقض المواثيق والأيمان؛ فقد كان حقا على الله تعالى أن يلعنه ويغضب عليه، بل ويجعل منه القردة والخنازير وعبد الطاغوت، ويضرب عليه الخزي والذلة والمسكنة، كائنا من كان.

لا مجال للشك، ولا شبهة للتناقض، فيما أنزل الله؛ فكل تلك الحقائق الناصعة في القرآن الكريم، المصدق لما بين يديه من الكتاب، والمهيمن عليه، والمحفوظ بحفظ الله، هي ذات سياقات واستحقاقات واشتراطات؛ لكن الأحبار والرهبان، من أهل الكتاب، وكذلك من نسج على منوالهم من أهل الإسلام، قد أخرجوا نصوص الاصطفاء والاختيار، المنزلة على الرسل، عن سياقاتها التكليفية الأصلية، إلى سياق الاصطفاء العنصري العرقي القومي، ثم ابتنوا على ما اقترفوا من تحريف الكلم عن مواضعه، أسطورة "شعب الرب المختار"، واتخذوا أيمانهم دخلا بينهم، أن تكون أمة هي أربى من أمة؛ وذلك في منافاة كاملة مع مقتضيات سنن الله الذي يخلق ما يشاء ويختار، إذ لو كان الأمر كما افتروا، لكان فسقة اليهود اليوم، أكرم على الله، وأفضل في ميزانه من كل الناس؛ وتلك دعوى غير مشبهة، ما يزال حاخامات الصهيونية العالمية يبتزون بها الطوائف المسيحية المؤمنة بالتوراة.

ولقد تسلل الكثير من فصول التراث اليهودي خاصة، وتراث أهل الكتاب عامة، والكثير من المفاهيم الخاصة بالقوم، تسلل إلى مطولات التراث الإسلامي، عن طرق مختلفة، يفترض أن أغلبها كان عن حسن نية؛ فقد تحدث مسلمة اليهود والنصارى، في مجالس الإسلام، بخلفيتهم التوراتية الغالبة، وخاصة في مواضيع تفسير الوجود، وخلق الإنسان، وقصص الأنبياء وسيرهم، وغير ذلك من الموضوعات التي شغلت حيزا كبيرا من مخرجات عصر التدوين؛ وأكثر ما طغت تلك التسريبات في مطولات التفاسير، وفي المرويات والأحاديث والأخبار المتناقلة، وفي السير والأنساب؛ وكان من أخطر المفاهيم التي تسربت إلى تراثنا الإسلامي، رغم نصوص الوحي القطعية الورود والدلالة، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، هو مفهوم الخيرية والانتقاء القومي، في سياقه العنصري البغيض، حيث وجد هذا المفهوم سنده في عبية الجاهلية التي طبعت حياة العرب قبل الإسلام، ثم عادت إلى واقعهم بشكل ما، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كما وجد سنده من عشرات المرويات المنتج أغلبها فيما بعد الفتنة والملك العضوض، لينسب زورا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل التراص من بابه الواسع.
وأخيرا فإن الكثير من الدارسين المسلمين غفلوا، أو عجزوا عن استيعاب الحكمة البالغة من الحضور المكثف في القرآن الكريم، لقصص بني إسرائيل، مع أنبيائهم، والتي بسطت بسطا تفصيليا مكررا في العديد من سور القرآن، ثم جاءت فصول منها مختصرة في بضع آيات من سور أخرى؛ ومن أوجه الحكمة في ذلك أن حكمة الله اقتضت  أن يجعل من بني إسرائيل، ورحلتهم الطويلة بين الهدى والضلال، بين الحق والباطل، بين النجاح والفشل؛ نموذجا وعينة ضابطة لحال الإنسان- من حيث هو إنسان- مع التكاليف والعزائم والمواثيق الإلهية (مختبر السلوك الإنساني)؛ فلقد بسطت مئات الآيات البينات، وعشرات السور الكريمة، تفاصيل الفشل الذريع الذي رافق أمة الأنبياء والملوك، في رحلتها الطويلة، بشأن اختبارات التكاليف والفرائض، وامتحانات الوفاء بعهد الله وميثاقه، وفصلت كيف فشل اليهود، فضربت عليهم الذلة والمسكنة، وغضب  الله عليهم ولعنهم على لسان الأنبياء، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وهم أبناء الرسل والأنبياء؛ فكانت تلك المقدمات والنتائج جاهزة للانطباق على كل الناس، في كل زمان وفي كل مكان، باعتبارها من سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير.

17. يناير 2018 - 7:48

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا