إن عملية الإصلاح التي ينشدها الجميع متوجة بإقلاع اقتصادي وتنموي مشهود لا يمكن أن تتحقق لأمة ولا لشعب يعيش على الأوهام والخرافات والفكر الأسطوري ويعربد فيه تجار الأحلام والأماني فكيف ينصلح الأمر لأمة وهي غارقة في الماضي منبتة عن الحاضر غير مستشرفة لآفاق المستقبل .إن الإنسان العربي والمسلم _ والذي نحن جزء منه – سرعان ما أعلن الانهزام قبل أن يلعلع رصاص المعركة وولى هاربا مندسا في الماضي
" التراث " جاعلا منه هالات مقدسة يكفي الارتباط بها والتمسح باعتابها- ولو ادعاءا-لاستدرار السماء ومن ثمة تحقيق النصر المؤزر متغافلا عن العلائق الضرورية بين الأسباب والنتائج ومتصامما عن الإطار العام للتنزيل المحكم الرابط بين العلة والمعلول وقد رد قاضي القضاة وشارح أرسطو وصاحب " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " على المذاهب الأربعة أبو الوليد بن رشد على نفاة السببية ودعاة الجواز من أئمة الاشعرية في كتابه " الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة " وذهب إلى أن { من جحد وجود ترتيب المسببات على الأسباب في العالم, فقد جحد الصانع الحكيم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا } و استدل بقوله تعالى في سورة النمل : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } وقوله تعالى في سورة الملك : { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور } وفي هذا الإطار يتنزل حديث تأبير النخل , ويعزى إلى عمر بن الخطاب رضي الله قوله لأهل الصفة إن السماء لا تمطر ذهبا . إن الهروب من الحاضر بآلامه وإخفاقاته المختلفة جعلتنا نلتحف بالماضي ونعيد اجتراره باستمرار فأصبحنا نفكر فيما لا نعيش , ونعيش ما لا نفكر فيه , إن العيب ليس في الماضي " التراث " الذي كان حاضر قوم يوما من الأيام , وإنما العيب فينا نحن فقد أصبنا بداء بالتاريخ لدرجة أصبحنا فيها غرباء عن حاضرنا .يقال إن من لا ماضي له لا حاضر له لا أود أن أناقش مدى صدقية هذا القول لكن ما اعتقده هو أننا لا نستطيع أن ننجو من التاريخ إذ هو حال ومتدفق في الحاضر بشكل متفاوت بين الأمم والشعوب وإن بصوت مبحوح وأخرس أحيانا .إن التراث شكل من أشكال التجاوب والتفاعل مع المحيط الذي نشأ وترعرع في كنفه , أي أنه جهد بشري خاضع لإكراهات المكان وإملاءات الزمان وعليه فهو مرتبط بلحظات انبثاقه الأولى على الأقل في مقاربته ومنهجيته وطبيعة قراءته للحدث ولا يعنى هذا أن التراث ليس جديرا بأن يتأسى به .بل من واجبنا التأسي بالتراث وهو قمين بذلك لكن في خطوطه العامة ودواله الكلية دون الغوص في جزئياته التفصيلية الظرفية لأن في ذلك مشاكسة للتراث نفسه وخيانة له ولنضرب أمثلة من التراث نتصر بها للتراث من التراثين .هل أدار الخليفة الراشد الثاني الفاروق عمر بن الخطاب الدولة بنفس الآليات والميكانيزمات التي استخدمها الخليفة الراشد الأول ؟ ألم يمنع عمر الزكاة عن المؤلفة قلوبهم رغم وجود نص صريح ؟ ألم يخلى عمر عن قطع يد السارق في عام الرمادة رغم وجود نص صريح ؟ ألم يأمر عمر رضي الله عنه الناس بصلاة التراويح , رغم أن كلا من رسول الله , والصديق لم يأمرا بها ؟ ! ألم يشتري عمر من الشاعر الهجاء الحطيئة أعراض المسلمين لأن من هجا أمه ونفسه لن يتورع عن هجاء الآخرين ؟ إن عمر رضي الله بهذه الاجتهادات لا يخالف النصوص ولا يخرج عليها , بل يكرسها ويعمق بعدها المقاصدي ويجعلها متجاوبة مع الواقع متجاوزا سياقات النزول اللحظية إلى المضامين الكلية التي تحقق مصلحة المسلمين ثم هل ان آلية انتقال السلطة من الخليفة الأول إلى الثاني إلى الثالث هي هي نفسها ؟ أم أن كلا من الأخيار الثلاثة تصرف تصرفا – تراثيا- ذاتيا أملاه عليه اجتهاده المتولد من قراءته وفهمه للظروف والسياق والملابسات المحيط به ( الواقع ) من جهة ومن جهة أخرى حرصه العميق على وحدة المسلمين ومصالحهم ورغبته الجامحة في تماسكهم فرغم التقارب الزمني بين الثلاثة ورغم أنهم امتاحوا جميعا من مشكاة النبوة وهديها الرشيد فقد اختط كل واحد منهم لنفسه طريقا مغايرا لسلفه يراه الأنسب لمعالجة قضايا عصره ومصره دون أن يوصف بأنه حاد عن طريق السلف الصالح " التراث " . يلزمنا إذن الكف عن أبلسة وشيطنة , بل وتكفير كل من لا يؤمن بربانية التراث , إن تقديس الأشخاص على حساب المبادئ أمر في غاية الخطورة , ويشوش على مقاصدية الشريعة المتعالية على الزمان والمكان بل ويصطدم بها أحيانا . إننا لا نقلل من أهمية التراث وما يحمله من إضاءات جديرة بالاستلهام والتقفي لكننا نحذر من المبالغة فيه والاعتماد عليه بشكل كلي وآلي لتحريك الحاضر رغم أنه متكأ صلب لبناء نهضة شاملة في خطوطه العامة ولحظاته الفارغة . يجب علينا جميعا أن نشمر عن سواعد الجد ونأخذ مكاننا المناسب في إطار التدافع الطبيعي بين الأمم والشعوب , ولن يتأتى ذلك إلا إذا أخذنا بأسبابه الموضوعية وأطرحنا فكرة تحقيق الأمجاد الكاذبة عن طريق السكن في الماضي إن أمة تسير سفنها ومراكبها عكس التيار لن تصل شواطئ النجاة !! .