لاتزال موريتانيا تعيش وضعا غريبا، فهي بلد يحكمه رئيسان: أحدهما مدني منتخَب مصرّ على حقه الدستوري وإن لم يملك قوة لإنفاذ ذلك الحق، والآخر عسكري مسيطر بمنطق القوة وفرض الواقع.
ولكل من الرجلين أتباع وأشياع من النخبة السياسية. وقد وافق المجلس العسكري المسيطر على السلطة في الأيام الأخيرة على إطلاق سراح الرئيس المنتخَب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.
لكن ذلك لم يسفر –حتى الآن- عما يؤمله كثير من الموريتانيين من انفراج للأزمة الدستورية التي تشل البلاد. ويبدو أن كلا المعسكرين الداعمين للرئيس والجنرال يعدِم الخيال والجرأة اللازمة لطرح حلول حاسمة.
وفي هذا المقال نحاول أن نقدم صيغة عملية مقترحة لحل الأزمة الموريتانية تقوم على مبادئ ثلاثة: احترام الدستور، وحفظ ماء الوجه، والتنازل المتبادل.
احترام الدستور
إن أهم ما يجب الحرص عليه خلال البحث عن حل للأزمة الموريتانية الحالية هو الحفاظ على الدستور مرجعية عليا للحياة السياسية، وترسيخ هذه المرجعية لتكون جزءا أصيلا من الثقافة السياسية المحلية.
فقد أهدر الحكم العسكري الذي دام ثلاثة عقود الأخلاق السياسية في موريتانيا، وعمَّق ثقافة التملق والانتهازية والحربائية التي تنخر جسد المجتمع اليوم، ولا أمل في تحسّن الوضع إلا ببناء أخلاق سياسية جديدة تتحاكم إلى نصوص الدستور وتنبذ منطق القهر والقوة.
والنظر إلى الأزمة الحالية من وجهة نظر دستورية يكشف أن ولد الشيخ عبد الله لا يزال الرئيس الشرعي لموريتانيا رغم حرمانه من القيام بمهامه الرئاسية، وأن الجنرال محمد ولد عبد العزيز لا يملك أي سند دستوري لاستيلائه على السلطة أو تشبثه بها.
فالمادة (40) من الدستور الموريتاني التي تشرح أحكام شغور المنصب الرئاسي تنص على أنه "في حالة شغور أو مانع اعتبره المجلس الدستوري نهائيا، يتولى رئيس مجلس الشيوخ نيابة رئيس الجمهورية لتسيير الشؤون الجارية"، كما تنص المادة ذاتها على أن "يجري انتخاب رئيس الجمهورية الجديد خلال ثلاثة أشهر ابتداء من إقرار شغور المنصب أو المانع النهائي، ما لم تحل دون ذلك قوة قاهرة أثبتها المجلس الدستوري".
ومن الواضح أن عوائق دستورية عديدة تحول دون الجنرال ولد عبد عزيز ودون تقلد الرئاسة الموريتانية، فمنصب الرئاسة غير شاغر والمجلس الدستوري لم يصدر أي حكم ذي صلة بهذا الأمر.
وإن وقع شغور أو مانع فرئيس مجلس الشيوخ -لا قادة الجيش- هو من سيتولى الحكم مؤقتا.
هذه النصوص الصريحة في الدستور لا يمكن القفز عليها دون إهدار الحكم الدستوري من أساسه، وهو ما سيكون خسارة تاريخية لبلاد طالما اكتوت بأهواء الرؤساء العسكريين التي لا يضبطها نص تعاقدي.
حفظ ماء الوجه
المبدأ الثاني الذي يحتاج الساعون لحل الأزمة الموريتانية إلى مراعاته هو حفظ ماء الوجه، فإذا كان النظر الدستوري لا يدع مجالا للريب في أن انقلاب الجنرال ولد عبد العزيز انتهاك صارخ لمبادئ الدستور الذي هو العَقد الاجتماعي للدولة، فإن تناول الأمر بمنطق الحكمة السياسية يقود إلى النظر أبعد من مجرد الحق الدستوري.
فموريتانيا بلد يعيش تجربة ديمقراطية وليدة تحتاج إلى رعاية باعتبارها رأس مال أخلاقيا مهماً بعد ثلاثة عقود من جدب الحكم العسكري وفساده واستبداده.
وفي مراحل الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية تحتاج النخبة السياسة إلى التفكير بطريقة غير تقليدية تتبنى الحكمة أكثر من العدل، وتحفظ ماء وجه الظالم والمظلوم على حد السواء، وتهدف إلى إنقاذ المستقبل أكثر من المحاسبة على الماضي والحاضر.
وقد ضربت بعض دول أميركا اللاتينية مثالا حسنا في ذلك حينما اتفقت المعارضة السياسية فيها مع الحكام العسكريين على منحهم بعض الامتيازات –مثل العضوية الدائمة في البرلمان والتقاعد المريح- مقابل التخلي عن السلطة، فكانت تلك بداية طيبة لبناء حكم ديمقراطي ينقذ المستقبل مقابل الإغضاء عن ظلم الماضي وخراب الحاضر.
لقد نزا الجنرال ولد عبد العزيز على السلطة نزواً من غير وجه حق، فهو عسكري يلزمه الدستور بطاعة السلطة المدنية المنتخَبة. والظالم لا يستحق جائزة على ظلمه، لكن هذا الحكم النظري –على دقته- شيء، والحكمة السياسية شيء آخر.
فالحكمة تقضي بحفظ ماء الوجه للرئيس الشرعي وللجنرال المتحكم. فلا بد من صيغة عملية تحفظ للجنرال المتحكم ماء وجهه وتطمئن مخاوفه من محاسبات المستقبل، مقابل تراجعه عن المنكر السياسي الذي ارتكبه صبيحة 6 أغسطس/آب 2008، وتحفظ ماء وجه الرئيس الشرعي حتى يعرف أن الجميع مقدرون لجهده في إفشال الانقلاب، وتضحيته الشخصية في الحفاظ على القيم الديمقراطية.
التنازل المتبادل
المبدأ الثالث هو التنازل المتبادل من طرف كل من الرئيس والجنرال، وتنازل القوى السياسية المؤيدة للطرفين، وطرح بدائل تراهن على إنقاذ الحكم الديمقراطي أكثر مما تراهن على شخص بعينه.
لقد آن الأوان ليدرك الجنرال ولد عبد العزيز أن التمادي في الغي غير مثمر، فقد تجاوز الموريتانيون وتجاوز العالم معهم الهجوم السافر على السلطة الشرعية المنتخبة، ولم يعد هذا الأسلوب مقبولا ولا ممكنا في العرف الدولي.
والأصلح للجنرال أن يتنازل طوعا ويقبل بما سيضمنه له موقعه التفاوضي الحالي من امتيازات وحصانة، بدلا من العناد والإصرار على وضع قد ينتهي إلى الانقلاب عليه وإيداعه غياهب السجون، أو بتفجر الوضع الاجتماعي داخل موريتانيا، أو تعريض الشعب البائس أصلا لوطأة مزيد من البؤس الاقتصادي.
كما أن الأصلح للرئيس الشرعي سيدي ولد الشيخ عبد الله أن يدرك أن رجوعه إلى حكم موريتانيا في الوقت الحاضر أصبح أمرا متعذرا رغم حقه الدستوري الواضح في ذلك، فيرضى بما حققه حتى الآن من مبدئية وشجاعة في الدفاع عن حقه الدستوري، ثم يركز على البحث عن حل يضمن استمرار المؤسسات الدستورية والمسار الديمقراطي، وينقذ موريتانيا من العودة إلى السلطة العسكرية القاهرة، وهو سيدخل التاريخ بذلك ويدخل قلوب كل الموريتانيين.
وعلى الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية أن تكون عملية في طرحها، فتقدم حلولا تخرج من الأزمة بدلا من الوقوف عند حدود رفض الحكم العسكري. كما أن الأحزاب التي انضمت إلى صف الجنرال في حاجة إلى توبة سياسية نصوح تعيدها إلى رشدها وتجدد لها مصداقيتها.
صيغة عملية
في ضوء المبادئ الثلاثة المبسوطة أعلاه نقدم هنا صيغة عملية مفصلة نرجو أن تعين على بلورة حل حكيم –وإن لم يكن بالضرورة عادلا- للأزمة الدستورية الموريتانية. تتلخص هذه الصيغة في الإجراءات الآتية:
أولا- يتم تفعيل المبادرة القطرية أو استبدالها –إن تعذرت- بمبادرة وطنية تدعو إلى مؤتمر وطني جامع، وترفض الأيام التشاورية التي حدد إطارها المجلس العسكري المتحكم.
ثانيا- ينعقد المؤتمر تحت إشراف الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، ويحضره ممثلون عن الرئيس وعن الجنرال وعن كافة الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان.
ثالثا- يشكل المؤتمر حكومة وحدة وطنية يعينها المؤتمرون بالإجماع، ويوقّع مرسومَ تعيينها الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله لتكون شرعية.
رابعا- يعلن الرئيس ولد الشيخ عبد الله ورئيس مجلس الدولة الجنرال ولد عبد العزيز استقالتهما للمؤتمر بالتوازي، ويلتزم كلاهما بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة.
خامسا- يُمنح كل من الرجلين بقانون يصدره البرلمان الموريتاني وضعَ رئيس سابق ماليا وقانونيا، ويتمتع كلاهما بحصانة من المتابعة القضائية عن أي أمر سياسي خلال فترة حكمه.
سادسا- يتولى رئيس مجلس الشيوخ الموريتاني القيام بأعمال رئيس الجمهورية طبقا للمادة 40 من الدستور, ويلتزم بعدم تغيير في تشكيلة الحكومة المؤقته كما تنص عليه المادة ذاتها.
سابعا- يتفق المؤتمرون على موعد انتخاب رئيس جديد تحت إشراف هذه المنظمات الدولية والإقليمية، في حدود فترة الأشهر الثلاثة التي ينص عليها الدستور.
ثامنا- تبدأ القوى السياسية من الآن في البحث عن توافق على شخصية وطنية غير حزبية يتم ترشيحها لرئاسة الدولة الموريتانية في الانتخابات القادمة.
ومن المهم أن تكون هذه الشخصية مقبولة من طرف الأحزاب والجيش والقوى الدولية، على أن تكون ذات التزام لا لبس فيه بمبادئ الدستور والحكم الديمقراطي.
مخاطر ومزالق
ويبقى أن ننبه إلى أن الحل التوافقي للأزمة الموريتانية –بالصيغة المعروضة هنا- محاط ببعض العوائق والمزالق، منها:
أولا- إصرار الجنرال ولد عبد العزيز على الإشراف على الانتخابات الرئاسية القادمة أو الترشح لها، ما يعني عمليا تزوير الانتخابات وتشريع وضع الجنرال غير الشرعي.
ثانيا- إغراء الجنرال ولد عبد العزيز لبعض الجهات الأوروبية -خصوصا فرنسا- بتشريع وضعه مقابل عقود اقتصادية مربحة في مجال السمك والنفط الموريتاني.
ثالثا- استقالة سيدي ولد الشيخ عبد الله قبل استقالة الجنرال أو قبل التزامه دوليا بعدم الترشح، فإن استقال الرئيس المنتخب بدون هذا المقابل ستخسر الأحزاب المعارضة للجنرال قوتها المعنوية والقانونية.
رابعا- حدوث فراغ دستوري من خلال إصرار الرئيس والجنرال على عدم الاستقالة في كل الظروف، ما سيبقي الوضع جامدا حتى نهاية ولاية الرئيس المنتخب.
خامسا- قدرة الجنرال على استبدال رئيس مجلس الشيوخ الحالي برئيس جديد للمجلس متواطئ مع نواياه الانقلابية، وهو أمر وارد بعد التجديد لثلث المجلس خلال انتخابات الشيوخ في مارس/آذار القادم.
وأخطر هذه المزالق أن يستقيل الرئيس المنتخب دون استقالة الجنرال والتزامه بعدم الترشح. ومثله في الخطورة أن يكسب الجانب الفرنسي إلى صفه.
وتدل لغة السفير الفرنسي المهادِنة في مقابلته مع صحيفة "الأمل الجديد" مؤخرا على وجود شيء مريب في هذا الاتجاه، فبينما تتسم لغة الجانب الأميركي والاتحاد الأفريقي بالوضوح والصرامة في التمسك بالشرعية الدستورية في موريتانيا، تتسم لغة الدبلوماسية الفرنسية بالمراوغة ومجاملة الحكام العسكريين.
لقد حاول السفير الفرنسي إعطاء الانطباع بأن لا فرق بين الموقفين الأميركي والفرنسي وإنما هو "اختلاف في المقاربة"، لكن التفاصيل االتي عبر عنها السفير تدل على غير ذلك تماما، وخصوصا:
• إصرار السفير الفرنسي على أن "الحل لا يمكنه أن يأتي إلا من موريتانيا"، ما يعني عمليا ترك المبادرة بيد الجنرال وتجنيبه الضغط الدولي اللازم.
• استبعاده بقاء الرئيس المنتخب في السلطة بحجة أنه "توجد معارضة قوية لهذه العودة"، وكان الأوْلى بالسفير الفرنسي أن لا يقحم نفسه في ذلك الأمر، بل يتركه للموريتانيين.
• عدم استبعاده ترشح الجنرال للانتخابات الرئاسية القادمة، بل تشجيعه الضمني على ذلك، لكن بلغة مراوغة يتقنها السفير. وترشح الجنرال قضاء عملي على الأمل الديمقراطي.
• ترويجه للأيام التشاورية التي أعلن عنها العسكر وتحذير أحزاب الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية من مقاطعتها، وهو تكريس آخر لمواقف الجنرال.
وليس من الواضح ما إذا كانت الآراء التي عبر عنها السفير الفرنسي مراوغة تكتيكية لتمرير بعض العقود بين موريتانيا وشركة توتال، أم هي تعبير عن موقف إستراتيجي فرنسي لصالح الاستبداد العسكري في البلاد.
وفي كل الأحوال فإن الأمل قائم بأن تدرك النخبة السياسية الموريتانية ما يجمع بينها، وتغلب منطق الحكمة وبعد النظر على المكاسب الظرفية التي تكرس وضع الاستبداد والفساد.
لاتزال موريتانيا تعيش وضعا غريبا، فهي بلد يحكمه رئيسان: أحدهما مدني منتخَب مصرّ على حقه الدستوري وإن لم يملك قوة لإنفاذ ذلك الحق، والآخر عسكري مسيطر بمنطق القوة وفرض الواقع.
ولكل من الرجلين أتباع وأشياع من النخبة السياسية. وقد وافق المجلس العسكري المسيطر على السلطة في الأيام الأخيرة على إطلاق سراح الرئيس المنتخَب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.
لكن ذلك لم يسفر –حتى الآن- عما يؤمله كثير من الموريتانيين من انفراج للأزمة الدستورية التي تشل البلاد. ويبدو أن كلا المعسكرين الداعمين للرئيس والجنرال يعدِم الخيال والجرأة اللازمة لطرح حلول حاسمة.
وفي هذا المقال نحاول أن نقدم صيغة عملية مقترحة لحل الأزمة الموريتانية تقوم على مبادئ ثلاثة: احترام الدستور، وحفظ ماء الوجه، والتنازل المتبادل.
احترام الدستور
إن أهم ما يجب الحرص عليه خلال البحث عن حل للأزمة الموريتانية الحالية هو الحفاظ على الدستور مرجعية عليا للحياة السياسية، وترسيخ هذه المرجعية لتكون جزءا أصيلا من الثقافة السياسية المحلية.
فقد أهدر الحكم العسكري الذي دام ثلاثة عقود الأخلاق السياسية في موريتانيا، وعمَّق ثقافة التملق والانتهازية والحربائية التي تنخر جسد المجتمع اليوم، ولا أمل في تحسّن الوضع إلا ببناء أخلاق سياسية جديدة تتحاكم إلى نصوص الدستور وتنبذ منطق القهر والقوة.
والنظر إلى الأزمة الحالية من وجهة نظر دستورية يكشف أن ولد الشيخ عبد الله لا يزال الرئيس الشرعي لموريتانيا رغم حرمانه من القيام بمهامه الرئاسية، وأن الجنرال محمد ولد عبد العزيز لا يملك أي سند دستوري لاستيلائه على السلطة أو تشبثه بها.
فالمادة (40) من الدستور الموريتاني التي تشرح أحكام شغور المنصب الرئاسي تنص على أنه "في حالة شغور أو مانع اعتبره المجلس الدستوري نهائيا، يتولى رئيس مجلس الشيوخ نيابة رئيس الجمهورية لتسيير الشؤون الجارية"، كما تنص المادة ذاتها على أن "يجري انتخاب رئيس الجمهورية الجديد خلال ثلاثة أشهر ابتداء من إقرار شغور المنصب أو المانع النهائي، ما لم تحل دون ذلك قوة قاهرة أثبتها المجلس الدستوري".
ومن الواضح أن عوائق دستورية عديدة تحول دون الجنرال ولد عبد عزيز ودون تقلد الرئاسة الموريتانية، فمنصب الرئاسة غير شاغر والمجلس الدستوري لم يصدر أي حكم ذي صلة بهذا الأمر.
وإن وقع شغور أو مانع فرئيس مجلس الشيوخ -لا قادة الجيش- هو من سيتولى الحكم مؤقتا.
هذه النصوص الصريحة في الدستور لا يمكن القفز عليها دون إهدار الحكم الدستوري من أساسه، وهو ما سيكون خسارة تاريخية لبلاد طالما اكتوت بأهواء الرؤساء العسكريين التي لا يضبطها نص تعاقدي.
حفظ ماء الوجه
المبدأ الثاني الذي يحتاج الساعون لحل الأزمة الموريتانية إلى مراعاته هو حفظ ماء الوجه، فإذا كان النظر الدستوري لا يدع مجالا للريب في أن انقلاب الجنرال ولد عبد العزيز انتهاك صارخ لمبادئ الدستور الذي هو العَقد الاجتماعي للدولة، فإن تناول الأمر بمنطق الحكمة السياسية يقود إلى النظر أبعد من مجرد الحق الدستوري.
فموريتانيا بلد يعيش تجربة ديمقراطية وليدة تحتاج إلى رعاية باعتبارها رأس مال أخلاقيا مهماً بعد ثلاثة عقود من جدب الحكم العسكري وفساده واستبداده.
وفي مراحل الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية تحتاج النخبة السياسة إلى التفكير بطريقة غير تقليدية تتبنى الحكمة أكثر من العدل، وتحفظ ماء وجه الظالم والمظلوم على حد السواء، وتهدف إلى إنقاذ المستقبل أكثر من المحاسبة على الماضي والحاضر.
وقد ضربت بعض دول أميركا اللاتينية مثالا حسنا في ذلك حينما اتفقت المعارضة السياسية فيها مع الحكام العسكريين على منحهم بعض الامتيازات –مثل العضوية الدائمة في البرلمان والتقاعد المريح- مقابل التخلي عن السلطة، فكانت تلك بداية طيبة لبناء حكم ديمقراطي ينقذ المستقبل مقابل الإغضاء عن ظلم الماضي وخراب الحاضر.
لقد نزا الجنرال ولد عبد العزيز على السلطة نزواً من غير وجه حق، فهو عسكري يلزمه الدستور بطاعة السلطة المدنية المنتخَبة. والظالم لا يستحق جائزة على ظلمه، لكن هذا الحكم النظري –على دقته- شيء، والحكمة السياسية شيء آخر.
فالحكمة تقضي بحفظ ماء الوجه للرئيس الشرعي وللجنرال المتحكم. فلا بد من صيغة عملية تحفظ للجنرال المتحكم ماء وجهه وتطمئن مخاوفه من محاسبات المستقبل، مقابل تراجعه عن المنكر السياسي الذي ارتكبه صبيحة 6 أغسطس/آب 2008، وتحفظ ماء وجه الرئيس الشرعي حتى يعرف أن الجميع مقدرون لجهده في إفشال الانقلاب، وتضحيته الشخصية في الحفاظ على القيم الديمقراطية.
التنازل المتبادل
المبدأ الثالث هو التنازل المتبادل من طرف كل من الرئيس والجنرال، وتنازل القوى السياسية المؤيدة للطرفين، وطرح بدائل تراهن على إنقاذ الحكم الديمقراطي أكثر مما تراهن على شخص بعينه.
لقد آن الأوان ليدرك الجنرال ولد عبد العزيز أن التمادي في الغي غير مثمر، فقد تجاوز الموريتانيون وتجاوز العالم معهم الهجوم السافر على السلطة الشرعية المنتخبة، ولم يعد هذا الأسلوب مقبولا ولا ممكنا في العرف الدولي.
والأصلح للجنرال أن يتنازل طوعا ويقبل بما سيضمنه له موقعه التفاوضي الحالي من امتيازات وحصانة، بدلا من العناد والإصرار على وضع قد ينتهي إلى الانقلاب عليه وإيداعه غياهب السجون، أو بتفجر الوضع الاجتماعي داخل موريتانيا، أو تعريض الشعب البائس أصلا لوطأة مزيد من البؤس الاقتصادي.
كما أن الأصلح للرئيس الشرعي سيدي ولد الشيخ عبد الله أن يدرك أن رجوعه إلى حكم موريتانيا في الوقت الحاضر أصبح أمرا متعذرا رغم حقه الدستوري الواضح في ذلك، فيرضى بما حققه حتى الآن من مبدئية وشجاعة في الدفاع عن حقه الدستوري، ثم يركز على البحث عن حل يضمن استمرار المؤسسات الدستورية والمسار الديمقراطي، وينقذ موريتانيا من العودة إلى السلطة العسكرية القاهرة، وهو سيدخل التاريخ بذلك ويدخل قلوب كل الموريتانيين.
وعلى الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية أن تكون عملية في طرحها، فتقدم حلولا تخرج من الأزمة بدلا من الوقوف عند حدود رفض الحكم العسكري. كما أن الأحزاب التي انضمت إلى صف الجنرال في حاجة إلى توبة سياسية نصوح تعيدها إلى رشدها وتجدد لها مصداقيتها.
صيغة عملية
في ضوء المبادئ الثلاثة المبسوطة أعلاه نقدم هنا صيغة عملية مفصلة نرجو أن تعين على بلورة حل حكيم –وإن لم يكن بالضرورة عادلا- للأزمة الدستورية الموريتانية. تتلخص هذه الصيغة في الإجراءات الآتية:
أولا- يتم تفعيل المبادرة القطرية أو استبدالها –إن تعذرت- بمبادرة وطنية تدعو إلى مؤتمر وطني جامع، وترفض الأيام التشاورية التي حدد إطارها المجلس العسكري المتحكم.
ثانيا- ينعقد المؤتمر تحت إشراف الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، ويحضره ممثلون عن الرئيس وعن الجنرال وعن كافة الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان.
ثالثا- يشكل المؤتمر حكومة وحدة وطنية يعينها المؤتمرون بالإجماع، ويوقّع مرسومَ تعيينها الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله لتكون شرعية.
رابعا- يعلن الرئيس ولد الشيخ عبد الله ورئيس مجلس الدولة الجنرال ولد عبد العزيز استقالتهما للمؤتمر بالتوازي، ويلتزم كلاهما بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة.
خامسا- يُمنح كل من الرجلين بقانون يصدره البرلمان الموريتاني وضعَ رئيس سابق ماليا وقانونيا، ويتمتع كلاهما بحصانة من المتابعة القضائية عن أي أمر سياسي خلال فترة حكمه.
سادسا- يتولى رئيس مجلس الشيوخ الموريتاني القيام بأعمال رئيس الجمهورية طبقا للمادة 40 من الدستور, ويلتزم بعدم تغيير في تشكيلة الحكومة المؤقته كما تنص عليه المادة ذاتها.
سابعا- يتفق المؤتمرون على موعد انتخاب رئيس جديد تحت إشراف هذه المنظمات الدولية والإقليمية، في حدود فترة الأشهر الثلاثة التي ينص عليها الدستور.
ثامنا- تبدأ القوى السياسية من الآن في البحث عن توافق على شخصية وطنية غير حزبية يتم ترشيحها لرئاسة الدولة الموريتانية في الانتخابات القادمة.
ومن المهم أن تكون هذه الشخصية مقبولة من طرف الأحزاب والجيش والقوى الدولية، على أن تكون ذات التزام لا لبس فيه بمبادئ الدستور والحكم الديمقراطي.
مخاطر ومزالق
ويبقى أن ننبه إلى أن الحل التوافقي للأزمة الموريتانية –بالصيغة المعروضة هنا- محاط ببعض العوائق والمزالق، منها:
أولا- إصرار الجنرال ولد عبد العزيز على الإشراف على الانتخابات الرئاسية القادمة أو الترشح لها، ما يعني عمليا تزوير الانتخابات وتشريع وضع الجنرال غير الشرعي.
ثانيا- إغراء الجنرال ولد عبد العزيز لبعض الجهات الأوروبية -خصوصا فرنسا- بتشريع وضعه مقابل عقود اقتصادية مربحة في مجال السمك والنفط الموريتاني.
ثالثا- استقالة سيدي ولد الشيخ عبد الله قبل استقالة الجنرال أو قبل التزامه دوليا بعدم الترشح، فإن استقال الرئيس المنتخب بدون هذا المقابل ستخسر الأحزاب المعارضة للجنرال قوتها المعنوية والقانونية.
رابعا- حدوث فراغ دستوري من خلال إصرار الرئيس والجنرال على عدم الاستقالة في كل الظروف، ما سيبقي الوضع جامدا حتى نهاية ولاية الرئيس المنتخب.
خامسا- قدرة الجنرال على استبدال رئيس مجلس الشيوخ الحالي برئيس جديد للمجلس متواطئ مع نواياه الانقلابية، وهو أمر وارد بعد التجديد لثلث المجلس خلال انتخابات الشيوخ في مارس/آذار القادم.
وأخطر هذه المزالق أن يستقيل الرئيس المنتخب دون استقالة الجنرال والتزامه بعدم الترشح. ومثله في الخطورة أن يكسب الجانب الفرنسي إلى صفه.
وتدل لغة السفير الفرنسي المهادِنة في مقابلته مع صحيفة "الأمل الجديد" مؤخرا على وجود شيء مريب في هذا الاتجاه، فبينما تتسم لغة الجانب الأميركي والاتحاد الأفريقي بالوضوح والصرامة في التمسك بالشرعية الدستورية في موريتانيا، تتسم لغة الدبلوماسية الفرنسية بالمراوغة ومجاملة الحكام العسكريين.
لقد حاول السفير الفرنسي إعطاء الانطباع بأن لا فرق بين الموقفين الأميركي والفرنسي وإنما هو "اختلاف في المقاربة"، لكن التفاصيل االتي عبر عنها السفير تدل على غير ذلك تماما، وخصوصا:
• إصرار السفير الفرنسي على أن "الحل لا يمكنه أن يأتي إلا من موريتانيا"، ما يعني عمليا ترك المبادرة بيد الجنرال وتجنيبه الضغط الدولي اللازم.
• استبعاده بقاء الرئيس المنتخب في السلطة بحجة أنه "توجد معارضة قوية لهذه العودة"، وكان الأوْلى بالسفير الفرنسي أن لا يقحم نفسه في ذلك الأمر، بل يتركه للموريتانيين.
• عدم استبعاده ترشح الجنرال للانتخابات الرئاسية القادمة، بل تشجيعه الضمني على ذلك، لكن بلغة مراوغة يتقنها السفير. وترشح الجنرال قضاء عملي على الأمل الديمقراطي.
• ترويجه للأيام التشاورية التي أعلن عنها العسكر وتحذير أحزاب الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية من مقاطعتها، وهو تكريس آخر لمواقف الجنرال.
وليس من الواضح ما إذا كانت الآراء التي عبر عنها السفير الفرنسي مراوغة تكتيكية لتمرير بعض العقود بين موريتانيا وشركة توتال، أم هي تعبير عن موقف إستراتيجي فرنسي لصالح الاستبداد العسكري في البلاد.
وفي كل الأحوال فإن الأمل قائم بأن تدرك النخبة السياسية الموريتانية ما يجمع بينها، وتغلب منطق الحكمة وبعد النظر على المكاسب الظرفية التي تكرس وضع الاستبداد والفساد.
لاتزال موريتانيا تعيش وضعا غريبا، فهي بلد يحكمه رئيسان: أحدهما مدني منتخَب مصرّ على حقه الدستوري وإن لم يملك قوة لإنفاذ ذلك الحق، والآخر عسكري مسيطر بمنطق القوة وفرض الواقع.
ولكل من الرجلين أتباع وأشياع من النخبة السياسية. وقد وافق المجلس العسكري المسيطر على السلطة في الأيام الأخيرة على إطلاق سراح الرئيس المنتخَب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.
لكن ذلك لم يسفر –حتى الآن- عما يؤمله كثير من الموريتانيين من انفراج للأزمة الدستورية التي تشل البلاد. ويبدو أن كلا المعسكرين الداعمين للرئيس والجنرال يعدِم الخيال والجرأة اللازمة لطرح حلول حاسمة.
وفي هذا المقال نحاول أن نقدم صيغة عملية مقترحة لحل الأزمة الموريتانية تقوم على مبادئ ثلاثة: احترام الدستور، وحفظ ماء الوجه، والتنازل المتبادل.
احترام الدستور
إن أهم ما يجب الحرص عليه خلال البحث عن حل للأزمة الموريتانية الحالية هو الحفاظ على الدستور مرجعية عليا للحياة السياسية، وترسيخ هذه المرجعية لتكون جزءا أصيلا من الثقافة السياسية المحلية.
فقد أهدر الحكم العسكري الذي دام ثلاثة عقود الأخلاق السياسية في موريتانيا، وعمَّق ثقافة التملق والانتهازية والحربائية التي تنخر جسد المجتمع اليوم، ولا أمل في تحسّن الوضع إلا ببناء أخلاق سياسية جديدة تتحاكم إلى نصوص الدستور وتنبذ منطق القهر والقوة.
والنظر إلى الأزمة الحالية من وجهة نظر دستورية يكشف أن ولد الشيخ عبد الله لا يزال الرئيس الشرعي لموريتانيا رغم حرمانه من القيام بمهامه الرئاسية، وأن الجنرال محمد ولد عبد العزيز لا يملك أي سند دستوري لاستيلائه على السلطة أو تشبثه بها.
فالمادة (40) من الدستور الموريتاني التي تشرح أحكام شغور المنصب الرئاسي تنص على أنه "في حالة شغور أو مانع اعتبره المجلس الدستوري نهائيا، يتولى رئيس مجلس الشيوخ نيابة رئيس الجمهورية لتسيير الشؤون الجارية"، كما تنص المادة ذاتها على أن "يجري انتخاب رئيس الجمهورية الجديد خلال ثلاثة أشهر ابتداء من إقرار شغور المنصب أو المانع النهائي، ما لم تحل دون ذلك قوة قاهرة أثبتها المجلس الدستوري".
ومن الواضح أن عوائق دستورية عديدة تحول دون الجنرال ولد عبد عزيز ودون تقلد الرئاسة الموريتانية، فمنصب الرئاسة غير شاغر والمجلس الدستوري لم يصدر أي حكم ذي صلة بهذا الأمر.
وإن وقع شغور أو مانع فرئيس مجلس الشيوخ -لا قادة الجيش- هو من سيتولى الحكم مؤقتا.
هذه النصوص الصريحة في الدستور لا يمكن القفز عليها دون إهدار الحكم الدستوري من أساسه، وهو ما سيكون خسارة تاريخية لبلاد طالما اكتوت بأهواء الرؤساء العسكريين التي لا يضبطها نص تعاقدي.
حفظ ماء الوجه
المبدأ الثاني الذي يحتاج الساعون لحل الأزمة الموريتانية إلى مراعاته هو حفظ ماء الوجه، فإذا كان النظر الدستوري لا يدع مجالا للريب في أن انقلاب الجنرال ولد عبد العزيز انتهاك صارخ لمبادئ الدستور الذي هو العَقد الاجتماعي للدولة، فإن تناول الأمر بمنطق الحكمة السياسية يقود إلى النظر أبعد من مجرد الحق الدستوري.
فموريتانيا بلد يعيش تجربة ديمقراطية وليدة تحتاج إلى رعاية باعتبارها رأس مال أخلاقيا مهماً بعد ثلاثة عقود من جدب الحكم العسكري وفساده واستبداده.
وفي مراحل الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية تحتاج النخبة السياسة إلى التفكير بطريقة غير تقليدية تتبنى الحكمة أكثر من العدل، وتحفظ ماء وجه الظالم والمظلوم على حد السواء، وتهدف إلى إنقاذ المستقبل أكثر من المحاسبة على الماضي والحاضر.
وقد ضربت بعض دول أميركا اللاتينية مثالا حسنا في ذلك حينما اتفقت المعارضة السياسية فيها مع الحكام العسكريين على منحهم بعض الامتيازات –مثل العضوية الدائمة في البرلمان والتقاعد المريح- مقابل التخلي عن السلطة، فكانت تلك بداية طيبة لبناء حكم ديمقراطي ينقذ المستقبل مقابل الإغضاء عن ظلم الماضي وخراب الحاضر.
لقد نزا الجنرال ولد عبد العزيز على السلطة نزواً من غير وجه حق، فهو عسكري يلزمه الدستور بطاعة السلطة المدنية المنتخَبة. والظالم لا يستحق جائزة على ظلمه، لكن هذا الحكم النظري –على دقته- شيء، والحكمة السياسية شيء آخر.
فالحكمة تقضي بحفظ ماء الوجه للرئيس الشرعي وللجنرال المتحكم. فلا بد من صيغة عملية تحفظ للجنرال المتحكم ماء وجهه وتطمئن مخاوفه من محاسبات المستقبل، مقابل تراجعه عن المنكر السياسي الذي ارتكبه صبيحة 6 أغسطس/آب 2008، وتحفظ ماء وجه الرئيس الشرعي حتى يعرف أن الجميع مقدرون لجهده في إفشال الانقلاب، وتضحيته الشخصية في الحفاظ على القيم الديمقراطية.
التنازل المتبادل
المبدأ الثالث هو التنازل المتبادل من طرف كل من الرئيس والجنرال، وتنازل القوى السياسية المؤيدة للطرفين، وطرح بدائل تراهن على إنقاذ الحكم الديمقراطي أكثر مما تراهن على شخص بعينه.
لقد آن الأوان ليدرك الجنرال ولد عبد العزيز أن التمادي في الغي غير مثمر، فقد تجاوز الموريتانيون وتجاوز العالم معهم الهجوم السافر على السلطة الشرعية المنتخبة، ولم يعد هذا الأسلوب مقبولا ولا ممكنا في العرف الدولي.
والأصلح للجنرال أن يتنازل طوعا ويقبل بما سيضمنه له موقعه التفاوضي الحالي من امتيازات وحصانة، بدلا من العناد والإصرار على وضع قد ينتهي إلى الانقلاب عليه وإيداعه غياهب السجون، أو بتفجر الوضع الاجتماعي داخل موريتانيا، أو تعريض الشعب البائس أصلا لوطأة مزيد من البؤس الاقتصادي.
كما أن الأصلح للرئيس الشرعي سيدي ولد الشيخ عبد الله أن يدرك أن رجوعه إلى حكم موريتانيا في الوقت الحاضر أصبح أمرا متعذرا رغم حقه الدستوري الواضح في ذلك، فيرضى بما حققه حتى الآن من مبدئية وشجاعة في الدفاع عن حقه الدستوري، ثم يركز على البحث عن حل يضمن استمرار المؤسسات الدستورية والمسار الديمقراطي، وينقذ موريتانيا من العودة إلى السلطة العسكرية القاهرة، وهو سيدخل التاريخ بذلك ويدخل قلوب كل الموريتانيين.
وعلى الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية أن تكون عملية في طرحها، فتقدم حلولا تخرج من الأزمة بدلا من الوقوف عند حدود رفض الحكم العسكري. كما أن الأحزاب التي انضمت إلى صف الجنرال في حاجة إلى توبة سياسية نصوح تعيدها إلى رشدها وتجدد لها مصداقيتها.
صيغة عملية
في ضوء المبادئ الثلاثة المبسوطة أعلاه نقدم هنا صيغة عملية مفصلة نرجو أن تعين على بلورة حل حكيم –وإن لم يكن بالضرورة عادلا- للأزمة الدستورية الموريتانية. تتلخص هذه الصيغة في الإجراءات الآتية:
أولا- يتم تفعيل المبادرة القطرية أو استبدالها –إن تعذرت- بمبادرة وطنية تدعو إلى مؤتمر وطني جامع، وترفض الأيام التشاورية التي حدد إطارها المجلس العسكري المتحكم.
ثانيا- ينعقد المؤتمر تحت إشراف الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، ويحضره ممثلون عن الرئيس وعن الجنرال وعن كافة الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان.
ثالثا- يشكل المؤتمر حكومة وحدة وطنية يعينها المؤتمرون بالإجماع، ويوقّع مرسومَ تعيينها الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله لتكون شرعية.
رابعا- يعلن الرئيس ولد الشيخ عبد الله ورئيس مجلس الدولة الجنرال ولد عبد العزيز استقالتهما للمؤتمر بالتوازي، ويلتزم كلاهما بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة.
خامسا- يُمنح كل من الرجلين بقانون يصدره البرلمان الموريتاني وضعَ رئيس سابق ماليا وقانونيا، ويتمتع كلاهما بحصانة من المتابعة القضائية عن أي أمر سياسي خلال فترة حكمه.
سادسا- يتولى رئيس مجلس الشيوخ الموريتاني القيام بأعمال رئيس الجمهورية طبقا للمادة 40 من الدستور, ويلتزم بعدم تغيير في تشكيلة الحكومة المؤقته كما تنص عليه المادة ذاتها.
سابعا- يتفق المؤتمرون على موعد انتخاب رئيس جديد تحت إشراف هذه المنظمات الدولية والإقليمية، في حدود فترة الأشهر الثلاثة التي ينص عليها الدستور.
ثامنا- تبدأ القوى السياسية من الآن في البحث عن توافق على شخصية وطنية غير حزبية يتم ترشيحها لرئاسة الدولة الموريتانية في الانتخابات القادمة.
ومن المهم أن تكون هذه الشخصية مقبولة من طرف الأحزاب والجيش والقوى الدولية، على أن تكون ذات التزام لا لبس فيه بمبادئ الدستور والحكم الديمقراطي.
مخاطر ومزالق
ويبقى أن ننبه إلى أن الحل التوافقي للأزمة الموريتانية –بالصيغة المعروضة هنا- محاط ببعض العوائق والمزالق، منها:
أولا- إصرار الجنرال ولد عبد العزيز على الإشراف على الانتخابات الرئاسية القادمة أو الترشح لها، ما يعني عمليا تزوير الانتخابات وتشريع وضع الجنرال غير الشرعي.
ثانيا- إغراء الجنرال ولد عبد العزيز لبعض الجهات الأوروبية -خصوصا فرنسا- بتشريع وضعه مقابل عقود اقتصادية مربحة في مجال السمك والنفط الموريتاني.
ثالثا- استقالة سيدي ولد الشيخ عبد الله قبل استقالة الجنرال أو قبل التزامه دوليا بعدم الترشح، فإن استقال الرئيس المنتخب بدون هذا المقابل ستخسر الأحزاب المعارضة للجنرال قوتها المعنوية والقانونية.
رابعا- حدوث فراغ دستوري من خلال إصرار الرئيس والجنرال على عدم الاستقالة في كل الظروف، ما سيبقي الوضع جامدا حتى نهاية ولاية الرئيس المنتخب.
خامسا- قدرة الجنرال على استبدال رئيس مجلس الشيوخ الحالي برئيس جديد للمجلس متواطئ مع نواياه الانقلابية، وهو أمر وارد بعد التجديد لثلث المجلس خلال انتخابات الشيوخ في مارس/آذار القادم.
وأخطر هذه المزالق أن يستقيل الرئيس المنتخب دون استقالة الجنرال والتزامه بعدم الترشح. ومثله في الخطورة أن يكسب الجانب الفرنسي إلى صفه.
وتدل لغة السفير الفرنسي المهادِنة في مقابلته مع صحيفة "الأمل الجديد" مؤخرا على وجود شيء مريب في هذا الاتجاه، فبينما تتسم لغة الجانب الأميركي والاتحاد الأفريقي بالوضوح والصرامة في التمسك بالشرعية الدستورية في موريتانيا، تتسم لغة الدبلوماسية الفرنسية بالمراوغة ومجاملة الحكام العسكريين.
لقد حاول السفير الفرنسي إعطاء الانطباع بأن لا فرق بين الموقفين الأميركي والفرنسي وإنما هو "اختلاف في المقاربة"، لكن التفاصيل االتي عبر عنها السفير تدل على غير ذلك تماما، وخصوصا:
• إصرار السفير الفرنسي على أن "الحل لا يمكنه أن يأتي إلا من موريتانيا"، ما يعني عمليا ترك المبادرة بيد الجنرال وتجنيبه الضغط الدولي اللازم.
• استبعاده بقاء الرئيس المنتخب في السلطة بحجة أنه "توجد معارضة قوية لهذه العودة"، وكان الأوْلى بالسفير الفرنسي أن لا يقحم نفسه في ذلك الأمر، بل يتركه للموريتانيين.
• عدم استبعاده ترشح الجنرال للانتخابات الرئاسية القادمة، بل تشجيعه الضمني على ذلك، لكن بلغة مراوغة يتقنها السفير. وترشح الجنرال قضاء عملي على الأمل الديمقراطي.
• ترويجه للأيام التشاورية التي أعلن عنها العسكر وتحذير أحزاب الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية من مقاطعتها، وهو تكريس آخر لمواقف الجنرال.
وليس من الواضح ما إذا كانت الآراء التي عبر عنها السفير الفرنسي مراوغة تكتيكية لتمرير بعض العقود بين موريتانيا وشركة توتال، أم هي تعبير عن موقف إستراتيجي فرنسي لصالح الاستبداد العسكري في البلاد.
وفي كل الأحوال فإن الأمل قائم بأن تدرك النخبة السياسية الموريتانية ما يجمع بينها، وتغلب منطق الحكمة وبعد النظر على المكاسب الظرفية التي تكرس وضع الاستبداد والفساد