بعد نصف عام على انقلاب موريتانيا قراءة في الوجهة والمآل / أحمد ولد محمد المصطفى

altبحلول يوم الجمعة السادس فبراير تكون موريتانيا قد أكملت شهورا ستة في جو غير مسبوق بالنسبة لها، ستة شهور من العيش تحت وقع "ردات الأفعال"، والتعصب للمواقف مهما كان شططها وضررها على العباد والبلاد.

ستة شهور من تقديم الدلائل على أن موريتانيا ليست -بالنسبة لعدد من أبنائها- سوى وسيلة ارتزاق وهدية تقدم قربانا لمن يدفع أكثر، في مزاد إقليمي ودولي لا يرحم.
بعد نصف سنة -من زمن الترديء الذي انتكسنا إليه- ألم يأن للأطراف المتنازعة أن تخرج من دائرة – ردة الفعل- إلى دائرة الفعل، الإيجابي علها تخرج البلاد مما تتخبط فيه، بعد أن حصدنا بما فيه الكفاية ثمرات ردات الأفعال.

نظرة في العمق: 
عاشت موريتانيا طيلة هذه الشهور "حوار طرشان" بين الأطراف الرئيسة للأزمة، والتي هي – في نفس الوقت- الأطراف الرئيسة للحل إن قبلت ذلك.

فالجنرال محمد ولد عبد العزيز وحكومته وأنصاره ما زالوا يراوحون نفس النقطة التي انطلقوا منها صباح السادس من أغشت 2008، دون أن ينجحوا في تقديم برنامج عمل جدي يقنع الداخل أو الخارج، وتمكن الاستكانة إليه كحل للأزمة المستحكمة، وهو ما جعل بعض الأطراف التي دعمتهم تراجع موقفها الداعم لهم، أوتتردد في أحسن الأحوال، فتكتل القوى الديمقراطية أصبح أقرب إلى العداء منه إلى المساندة، كما أن بعض الأطراف الخارجية تجد حرجا في إعلان موقفها الداعم للانقلاب نظرا لغياب أجندة مقنعة يمكنها الدفاع عنها.

ولعل من أبرز النقاط التي كان لها أبلغ الأثر في إضعاف موقف حلفاء العسكر هو عدم جزمهم في نقاط تعتبر مصيرية بالنسبة للجميع، إضافة إلى الارتجالية التي طبعت بعض القرارات المتخذة لحد الساعة، وخصوصا في المجال السياسي ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك:
أولا: تردد ولد عبد العزيز بين الترشح للرئاسة بنفسه مما يعني بعده عن "قلعته الحصينة" ومصدر أمنه الأول "الحرس الرئاسي"، كما يعني ذلك فتح الباب السالك إلى القصر الرئاسي؛ باب دخل هو منه مرات عديدة.
وخيار آخر بإعادة الكرة مرة أخرى، واختيار شخصية سهلة القياد طيعة للأوامر، مأمونة الخروج على الطاعة، والتخفي وراءها لفترة أخرى.
لكن غصة التجربة السابقة تبقى حاضرة عنده، وتدفعه للتفكير ألف مرة ومرة، وتقليب جعبته وعجن عيدانها مرات ومرات قبل أن يستقر رأيه، فولد الشيخ عبد الله لم يكن يتصور منه ما قام به، وقد اختير بعناية، وصنع على العين، وهيئت له الأسباب طيلة الفترة الانتقالية حتى وصل إلى ما وصل إليه، ومع ذلك قام بما قام به.

هما خياران بين يدي ولد عبد العزيز، وقد يستغرق الحسم بينهما بعض الوقت، لكن الأخير منهما –في حال العثور على الشخصية المناسبة- قد يكون صخرة مناسبة لإلانة –إن لم يكن تحطيم- الضغوط الخارجية، كما قد تجد فيه القوى الداخلية بعض العزاء، وتقنع من الغنيمة بإبعاد العسكر عن الترشح والحكم، أو عن واجهته على الأصح.
أما في حال حسم الأمر لصالح الخيار الأول فإن الجنرال سيكون بحاجة لعروض من الوزن الثقيل، حتى ينجح في استمالة القوى الخارجية، وهو ما قد تكون الوفود الموريتانية التي تجوب العالم هذا الأسبوع والذي قبله تسعى إليه، خصوصا وأن الأنباء تحدثت عن وفود إلى المغرب وفرنسا وإفريقيا؛ وحتى إسرائيل –التي أعلن عن تعليق العلاقات معها- وجد من يذهب إليها، ربما بحثا عن مفتاح يكون له فعله في فتح البيت الأبيض الموصد بقوة في وجه العسكر.

أما المثال على الارتجالية في القرارات فيكفي فيه ملف "السجناء السياسيين"، ففي الوقت الذي يعلن فيه العسكر عن إطلاق سراح ولد الشيخ عبد الله وإعطائه كامل حريته، نجد أن وزيره الأول ومستشاره الرئيس وعدد من السياسيين ما زالوا يقبعون في السجن دون بوادر إطلاق سراحهم، وهو ما يعني أن العسكر لم يقرروا بشكل نهائي أي الطريقين يسلكون، طريق إطلاق الحريات والظهور بمظهر النظام الديمقراطي الساعي إلى إرساء أسس صحية لها، وطريق استهداف الخصوم السياسيين المهددين لوجوده.

وعلى الطرف الثاني نجد "الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية" والتي يبدو أنها اقتصرت في الآونة الأخيرة على أسلوبي المؤتمرات الصحفية والبعثات الخارجية في خطوة تدل على تراجع التأثير في الداخل، أو على التعويل على الخارج، أو هما معا.

مؤسف حقا أن يقتصر نشاط "جبهة" كونت "للدفاع" عن الديمقراطية في خرجات إعلامية قد لا تكون –في بعض الأحيان- محددة الأهداف، ورحلات "سياحية" هدفها وضع بقية الأوراق الموريتانية في يد "الأجنبي" الذي لا يعرف إلا مصالحه، وبذلك يحكم قبضته على "الملف الموريتاني بكليته".
لقد كنت أربأ بالجبهة –وهي تملك من القادة السياسيين من تملك- أن يكون هذا نهجها في مقاربة الأزمة، فالتفاخر بالأحزاب المنضوية تحت لوائها لا يفيدها إن لم تكن لهذه الأحزاب جماهير يمكن أن يلجأ إليها عند الحاجة لتشكل متكئا صلبا قد تدعو إليه الضرورة في وقت ما.

لقد وجد أنصار العسكر فرصتهم لإثبات تهمة العمالة للأجنبي بكل رؤساء الجبهة، وأثبتوا –على الأقل للعوام- سعيهم الحثيث لفرض الحصار على البلاد وجهودهم في تجويع العباد، وذلك من خلال التعويل الكبير على العامل الخارجي، والذي يبدو جليا في بعض تصريحات وتلميحات وتصرفات قادة الجبهة، ولعل أسفار رئيس الجمعية الوطنية المتعددة تصب في هذا الاتجاه، ويكاد وقته خارج الوطن يربو على وقته داخله، مع أن الأزمة أزمة داخلية أولا وأخيرا، ويجب أن تظل كذلك.
ثم إن في تركيز إعلام "الجبهة" على اتصال ولد الشيخ عبد الله بهذا الرئيس أو ذاك، وتلقيه رسالة من هذا الرئيس أوذاك، وإعطاء زخم كبير لكل موقف دولي مهما كان باهتا ولا تأثير له، بل وإعلان اللجنة الإعلامية للجبهة باسم بعض الدول –كما وقع في موقف الجزائر- أن موقفها لم يتغير، بحثا عن ظل إنجاز ولو كان على الورق، عله يجفظ بعض ماء الوجه، ويصون بعض حضور المؤتمرات الصحفية.
في مثل هذه الظروف لايبدو موقف الجبهة مطمئنا لأنصارها، وهو بالطبع أقل غيظا لخصومها، سيما وأن النفس الطويل الذي يتعامل به الاتحاد الإفريقي ومن ورائه المجتمع الدولي مع الملف الموريتاني لايصب البتة في صالح موقف الجبهة الذي يراهن عليه شعب اعتاد ضعف الذاكرة والسير مع الوضع أيا كان، والركون إلى الحاضر كما هو، مهما بلغت وعود المستقبل من الإغراء.

يدرك من له اطلاع على الشأن السياسي الموريتاني أن الأحزاب المشكلة للجبهة تغلب الواقعية السياسية في كثير من تصرفاتها، ويحضر عاملا الربح والخسارة –الحزبيان وليس الوطنيان-في أغلب مواقفها، وقد أثبتت الانتخابات الرئاسية الأخيرة إضافة إلى حكومة ولد الوقف الأولى ذلك.
وبالتالي فمن الوارد جدا أن يفهم أحد هذه الأحزاب في لحظة ما أن الواقع يدعوه لتغيير موقفه أو –على الأقل- تليينه، سبقا للآخرين حتى لايتركوا عليه عبأ الوقوف وحيدا فريدا في وجه خصم شكل ندا لهم وهم مجتمعون.

وخارج هذين القطبين نجد أطرافا أخرى حكمت على نفسها بالإقصاء، وإن كان الواقع يخولها دورا بارزا في سياق الأحداث السياسية الموريتانية.
أولها: حزب تكتل القوى الديمقراطية والذي يرأسه "الزعيم السابق" للمعارضة، هذا الحزب رغم الثقل السياسيى والإعلامي الذي يحسب له، ما زال حتى الساعة لم يتخذ موقفا واضحا من الانقلاب، وما زالت السجالات والملاسنات تحدث داخل قمرة قيادته في تدافع يبدو أنه قد يقذف بأحد الربابنة المتنازعين خارج قمرة القيادة إن لم يكن خارج الحزب ككل، وأيا كانت النتيجة التي سيصل إليها الحزب فلن يكون لها كبير تأثير على الساحة، لأن العسكر قد أكلوا ثمن موقفه، والجبهة قطعت أشواطا يصعب على التكتل تخطيها، ويأبى على ولد داداه موقعه أن يبقى تابعا.
وثانيها: ولد الشيخ عبد الله "صاحب القضية" والذي على ما يبدو فضل أن يجلس في قريته النائية "لمدن"، يتابع سير الأحداث دون محاولة التأثيرفيها، أو قد يكون لترويه الزائد في بعض –الأحيان- دور في بقائه هناك، يصر الرجل على استعادة "ملك ضيعه" يوم قرر أن يرقي الجنرالين ويخلي الساحة العسكرية لهما من خصمهما العنيد عبد الرحمن ولد ببكر، والذي كان وجوده يوفر "توازن رعب" في الحرب الباردة بين الطرفين، يقف الرجل الذي نال الرئاسة الموريتانية ذات يوم على طبق من ذهب، راجيا أن يستعيدها ولو على طبق من "الخزف"، وحتى لو كان من "صناعة خارجية".

تعدد السبل واختلاف النتائج:
تبدو البلاد اليوم على مفترق طرق حقيقي، وللأسف- لايبدو أي من الطرق البادية -لحد الساعة- سالكا السبيل التي يطمح إليها أبناء موريتانيا المخلصون.
السبيل الأول: 
يبدو أنه بات من الوارد عودة موريتانيا إلى الحكم العسكري -اللابس لبوس "ديمقراطيتهم المزيفة"- وهو ما يعني ضياع جهود ثلاثين سنة من تضحيات الطبقة السياسية، على اختلاف رؤاها وتوجهاتها الفكرية في خسارة فادحة لماكسبته البلاد من حريات تؤسس لاستقرار فعلي، والسبب غير مقنع إنه انتصار "للنفس"، وتضخم في "الأنا" أدى إلى "ردة فعل" "ألغت" كل هذه الجهود، وسيبدو الأمر للجميع _الداخل والخارج- وكأنه غير منطقي نظرا لصعوبة استساغته، لكن الأحداث تشير إلى أنه أمر وارد أكثر من أي احتمال آخر، وأن الجماهير الموريتانية لم تصل درجة تستحق فيها الديمقراطية أحرى أن تحميها من بطش "أصحاب الأحذية الخشنة"، فدعوات ترشيح الجنرال والمسيرات المؤيدة لها وجدت هنا وهناك، ربما في جس لنبض الطبقة السياسية ورصد لردود أفعالها، وستزداد هذه المسيرات وتتوسع رقعتها كلما اقترب موعد الانتخابات.

السبيل الثاني: إعادة قواعد اللعبة على أسس الفترة الانتقالية، وترشيح شخصية جديدة تنازع على الشرعية وتدعيها هي الأخرى مع مساندة "السلطة الواقعية"، وحينها لن يكون أمام الداخل والخارج إلا التعامل مع الواقع بعيدا عن "المثاليات" التي لا مكان لها في عالم السياسية، وإذا افترضنا أن أحد الأطراف الرئيسة في الجبهة "استماله الواقع"، وقرر القناعة بالمتوفر، ونجح العسكر في الحصول على إشراف دولي على الانتخابات، وطبعا ليسوا بحاجة إلى تزويرها في ظل وجود المخزن الانتخابي الكبير المتمثل في "موريتانيا الأعماق"، إضافة إلى ارتفاع نسبة المشاركة بتصويت الموريتانيين في الخارج، وطبعا أغلبهم سيصوت "ضد" لكن ذلك يضفي مزيد مصداقية دون أن يكون له تأثير على النتيجة النهائية.
لكن الواقع يقول إن هذا السبيل في حال سلكته البلاد لن يكون سوى "مهدئ" غير مستأصل للداء، وستظل الأزمة قابلة للعودة إلى ذروتها في أي لحظة، لاسيما وأن ولد عبد العزيز سيجد نفسه –على الأقل أخلاقيا وعرفيا- مجبرا على الابتعاد عن الوظائف العمومية، أحرى العودة إلى المؤسسة العسكرية وخصوصا "قلعته الحصينة" كتيبة الحرس الرئاسي.

السبيل الثالث: انقلاب على الانقلاب: مجرد الاسم يجعل النفس تنفر من هذا السبيل، لكنه قد يشكل –في لحظة ما- الحل السحري الوحيد للأزمة الموريتانية، لأنه الاحتمال الذي لا يحتاج إلى مقدمات، والتاريخ السياسي الحديث يؤكد أنه الاحتمال الأكثر ورودا، وأنه ملجأ الموريتاني كلما ضاقت السبل، وانحصرت الخيارات، وحتى في حال سلوك أحد السبيلين السابقين، فهذا الخيار سيظل واردا في أي لحظة.

وكل الخيارت السابقة هي خيارات "عسكرية" بالدرجة الأولى، ولعل ذلك عائد إلى أن "الجبهة" لحد الساعة لم تقدم برنامجا يمكن أن يرضي خصومها في المعسكر الآخر، وبالتالي حتمت عليهم أن يواصلوا فرض أمرهم الواقع بعيدا عن "الأمور التوافقية"، وعقلية الجندي تقول له "إذا لم يترك لك مفر، فليس عليك سوى الاستبسال حتى آخر رصاصة في جعبتك وآخر قطرة من دمك"، والواقع يقول إن الجبهة بما قدمت حتى الآن تدفع "العسكر" للشعور بأنه "لا مخرج" مشرف، وبالتالي فالاستبسال والصمود هو الحل.

أيا كانت السبيل التي ستسلكها البلاد فهي خسارة كبيرة لكل الموريتانيين، خسارة "للديمقراطية" ولو كانت عرجاء، خسارة للشعوب الإفريقية والعربية، من تجربة كانت ستشكل على –علاتها- مصدر إحراج للكثير من قادة هذه الدول، وقد تدفع بعضهم لدفع أقساط من الحرية والديمقراطية لاتهدد كرسيه، ويكون شعبه في أمس الحاجة إليها.

4. فبراير 2009 - 11:03

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا