ليس بدعا أن يعبر المفكر عن آرائه بل من الواجب عليه أن يجتهد في تقديم ما يفيد الناس ويمكث في الأرض أي أن يقدم فكرة أو رأيا صلبا قائما على سلم حجاجي مقبول , وإن اصطدم بآراء واجتهادات أخرى فلا تثريب عليه في ذلك فتنوع الأفكار والآراء ظاهرة صحية , وباحتكاك العقول وتدافعها تنبجس الحقيقة – مع تحفظنا على لفظة الحقيقة نظرا لنسبيتها ولتحولاتها المختلفة – وعندما يؤلف أحدنا كتابا أو ينجز بحثا أو يسطر مقالا فكأمنا ينثر ذاته على الورق ,
فأي منا يود أن يبدوا نشازا مهلهلا غير متماسك وغير مقنع ولا متزن . إن العواطف الجياشة أو المجيشة والميول الجامحة لا تصلح مادة للكتابة فالألفاظ والأشكال والرسوم تحتاج إلى دلالات ومضامين ومعاني وإلا تصبح مجرد بهرجة لغوية ذات فرقعة موسيقية تحتضن عواطف ومشاعر أقرب هي للشدو والطرب منها للفكر .واعتقد أنه يلزمنا جميعا حينما نكتب أن نستحضر القارئ أو المستهلك فنحترم عقله ومستواه وننطلق من أنه من ذوى الجلالة في الرأي وأن الأمر أمره والهم همه خاصة إذا كان الموضوع المبحوث شأنا عاما فلا نحاول أن نوهمه أو نغالطه . ويجب علينا كساسة ومفكرين أن نساهم في توطيد بمبدأ تخليق الحياة السياسة وإضفاء المزيد من الوفاء عليها فنحن لسنا تلاميذة لميكافيللى نؤمن براهنية
الحدث فقط .قرأت مقالا بعنوان { النقباء العشرة والخطوة الثالثة } ويبدو من العنوان أنه محتشم إلى حد ما إذ يغازل المأمورية الثالثة تحت اسم "المرحلة الثالثة " واستهل الكاتب المقال بمدخل موفق –في نظري- متحدثا عن النهضة وآلياتها إلا أنه سرعان ما انغمس في كيل المديح للسيد الرئيس المحترم محمد بن عبد العزيز وانقلاب 2005 , وأجهد نفسه في إلصاق كل النعوت والصفات القدحية بنظام السيد الرئيس المحترم معاوية ولد سيد احمد ولد الطايع المنصرف ولم يمنحه أي فعل أو انجاز رغم أنه حكم البلاد ما يقرب 20 سنة . أليس هو أبو الديقراطية الموريتانية الحديثة على علاتها . أليس هو من زود مدن البلاد الكبرى بالكهرباء وربط الدولة بوسائل الاتصال الحديثة ( موريتل- ماتل ) وذلك رغم أخطائه .إن التعلق بالحاضر لا يستلزم بالضرورة جلد الماضي , وعلينا أن نعمل بمضمون أن كل حاضر سيتحول يوما من الأيام إلى ماضي طال الزمن أم قصر . إن الكاتب لا يحفظ للسيد الرئيس من الود أو الحس الأخلاقي والأدبي ما يحمله حتى على كتابة اسمه كاملا .ثم تحدث الكاتب عما أسماه الخطوة التصحيحية حين أنتزع السيد الرئيس محمد بن عبد العزيز السلطة من السيد الرئيس المنتخب سيدي بن الشيخ عبد الله عبر انقلاب 2008 .ويبدو أن الكاتب قد وقع في تخطيئة ممدوحه من حيث لا يريد فالإقرار بالتصحيح اعتراف بسالف الفعل الخاطئ أو القادح فمعظمنا يعلم أن الرئيس الحالي كان داعما للرئيس سيدي بن الشيخ عبد الله . ويبرر الكاتب هذا الانقلاب بأن رأس السلطة أعاد إنتاج ما سماه هو { الصفحة القاتمة من نظام ولد الطايع } فالكاتب هنا لا يتلجلج لوأد ديمقراطية ناشئة لا تزال في مرحلة التخلق وتحتاج إلى مزيد الرعاية والاحتتضان تم الإجهاز عليها في وضح النهار وبسبق الإصرار والترصد لا يتأسف الكاتب على الموؤدة ولو تباكيا ولا يحمل تعبة الفعل لصاحبه ! . ثم تحدث الكاتب عن اللجنة التي شكلت لتدارس شؤون تتعلق بحزب الاتحاد من أجل الجمهورية واصفا لهم بالنقباء ومتسائلا هل سيفضي هذا التوجه للخطوة الثالثة وقد تحاور الكاتب مع نفسه في معظم المقال وأثار أسئلة وأجاب نفسه باسم أغلبنا حينا وباسم جميعنا حينا آخر. لينتهي إلى أنه لا بديل للنظام القائم لا في شخوص المعارضة ولا في رجالات الموالاة . وأفاض الكاتب في الحديث عن الإنجازات وركز على قضية الساحل ونحن بدورنا نثمن عاليا فكرة دول الساحل ونعتبرها جهدا خالصا للرجل كلل بالتوفيق والنجاح . ومن مفارقات الكاتب سعيه لتسويق المأمورية الثالثة بدعوى عدم نضج الوعي بمبادئ الديمقراطية في البلد ! متى ستنضج الديمقراطية – يا كاتبنا- إذا نحن لم نتح لها من الوقت ما يسمح لها بالنضج والتمكن ؟ هل ترون أنتم أن العودة القهقهرى وترديد قصائد الثناء ونسف مواد الدستور صلبها و رخوها وإغراء الأنظمة ومحاولات استكراهها على البقاء أدوات ولبنات صلبة لإرساء ديمقراطية مازلنا نعول على عدم نضجها ؟!
والغريب في الأمر أن الكاتب يربط بين المؤسسات الديمقراطية والجيش ويعتبره الضامن وتلك ظاهرة من ظواهر القلب الأيديولوجي الشائع فما هو معروف في الأدبيات السياسية و القانونية أن التناسب عكسي بين الدولة المدنية والعسكرة فكلما استفحلت إحداهما تراجعت الأخرى . ولكن يبدو أن للكاتب مقاربة خاصة تستقي من مناخات الخطوة الثالثة ّ!!