تبدو ثقافتنا اليومَ كثمرة تآكلَ نصفُها من فسادِها؛ أطُر للعمل الثقافي تخص كُتاب العربية وأخرى تخص كُتاب الفرنسية، مَناشِطُ يَحضُرها المهتمون بالثقافة العربية وأخرى يَحضُرها المهتمون بالثقافة الفرنسية، وخطابات بالعربية للفسطاط الأول وأخرى بالفرنسية للفسطاط الثاني، تماماً كحال التعليم في السنين الخالية: مدارس للمتعلمين بالعربية وأخرى للمتعلمين بالفرنسية. إنها ثمرة تعليم فاسد منقسمٍ على نفسه، تعليم بلا أهداف، وبلا فلسفة..
اليوم، لا حوار، لا أرضية مشتركة، بل لا مشتركات، لا مناقشة ولا وعي ولو زائفاً، حول خطر الانفصام في جسد الثقافة الوطنية، ولا إرادة للاستثمار في تنوعها وتأصيلها وتحويل الاختلاف فيها إلى ثراء. والنتيجة المباشرة أن لا إبداع ولا تجديد ولا إسهام في إنتاج المعرفة أو تطوير البحث فيها، بل تراجع مستمر في استيعابها، وتدهور واضح في امتلاك أدواتها الأساسية وفي مقدمتها اللغة.
كان المجتمع الموريتاني بكل مكوناته ضحية لاستعمار غاشم جثم على صدره بوجه سافر أكثر من ستة عقود من الزمن، تعرض خلالها لكل صنوف الإهانة والاستغلال والتمزيق فنهبت ثرواته وديست مقدساته ونكست منظوماته القيمية والرمزية إلا ما كان دونه قطع الرقاب.
ولقد وقف الأبطال والأباة من هذا المجتمع في جبهة الصمود فرادى وجماعات، فمنهم من ضحى بنفسه، ومنهم من ضحى بماله، ومنهم من ضحى بمكانته، رافعين بكل شجاعة شعار الرفض المطلق لكل أشكال الهيمنة والغطرسة والاستكبار، حتى تحقق الجلاء عن الوطن ونالت الدولة استقلالها المجيد.
خرج المستعمر بعد أن اطمأن بثقة تامة على أن نظام التعليم الذي شيده في موريتانيا، كان كفيلاً بتعميق حالة معقدة من التمزق والانقسام بين مكونات الشعب، وإحداث قطيعة مزمنة مع تاريخ الأمة وضميرها بواسطة فرض حضورِ لغته كفيروسِ تفتيتٍ في دوائر التعليم والعمل، ومن ثم ضمان بقاء الأمة في مرحلة ما قبل الفطام، غيرَ قادرةٍ على بناء ذاتها والاعتماد على نفسها.
وهكذا، لم يتوقف نزيف الدم حتى بدأ نزيف الذات؛ فعند صعود الطبقات التي تلقت تكوينها في حضن نظام التعليم المَيْزي: العربية لفئة والفرنسية لفئة أخرى، بدا كما لو كان مألوفاً في أخلاقنا أن يكون المرءُ بلا أخلاق، وبلا وطنية، وبلا هوية، وربما بلا دين.
لا أظن أن مثقفاً يدعي صفة العضوية، أو حتى مهتما، أو مجردَ مشتغل بالثقافة الوطنية، أو متابعاً لمشهدها، يمكن أن يكون راضياً عن حالها أو متفائلا بمآلاتها. ولا أظن أن مثقفاً صغيراً كان أم كبيراً، ناطقا بالعربية أو بلغة أجنبية، يمكن أن يكون في عمىً عن هذه الحقيقة، وإلا فنحن أمام طبقات مصابة إما بالغفلة وإما بالتآمر.
وياللسخرية! تَصَوَّرْ أن تبدوَ أمامَ الآخرين كَمَن يَقفز من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال، دون سبب، مغيراً جلدَك ولسانَك بكل بساطة، تحت الطلب حيناً وتحت التأثير حيناً آخر، بدلاً من أن تعبر بثقة وصدق وأصالة عن نفسِك أنت، لتُشَكل أفكارُك امتداداً ووفاءً لمرجعيتك أو قناعاتك الأساسية. وبدلاً من انتهاج سلوكٍ حضاري يترجم معارفَك أو يَعكِسُها على الأقل، وعوضاً عن مراجعة المواقف والآراء، وممارسة النقد الذاتي، يَراك قُرَّاؤك ومتابِعوك على الدوام وأنت تَلعن أمتك، وتُضيّع وقتك في جلدها وعقوقها، في الوقت الذي لا تكف فيه عن اجترار نصوصها، وتَستنزف طاقتك في استعراض مهاراتك في مناقشة قضايا خارج حدودِك، وفي أغلب الأحيان أنت آخر من يُستشار بشأنها. وما كل ذلك إلا من حالة التيه التي أضَعْتَ فيها حتى ذاتَك، وتوشِك أن تُضَيِّعَ فيها وطنَك. فَهَلاَّ كنتَ أنتَ أولاً، قبل أن تطلبَ من أُمَّتِكَ أن تكون.
د. المختار الجيلاني
أستاذ اللسانيات وعلم النص المحاضر بجامعة انواكشوط العصرية