بسم الله الرحمن الرحيم
بعــد أن تناولت الحلقة الأولى من سلسلة "تلبس القانون بالسياسة" مبدأ تداخل السياسة والقانون وانصبت الحلقة الثانية على مخاطر طغيان
الاعتبارات السياسية على الضوابط الأخلاقية في التجريم، تتناول الحلقة الثالثة التنازع بين الحصانة والتلبس وسعيا لاستجلاء الرؤية على الساحة
الوطنية،
التي يختلط حابل قانونها بنابل سياستها هذه الأيام، نتخذ قضية السيناتور محمد ولد غده مثالا لتطبيق الموضوع الذي نتناول من خلال محورين: - محور قانوني (أولا) يتركز على استعراض مسطرة المتابعة الجنائية بشكل عام (1) قبل بيان خصوصية مسطرة التلبس (2) والتعريج على مقاصد الحصانة البرلمانية وحدودها (3) - ومحور قضائي (ثانيا) ينصب على تطبيقات التلبس والحصانة في الواقع من خلال استعراض قضية الشيخ محمد ولد غدة (1)
وما نجم عنها من متابعات تثير إشكالية شرعية استنطاق وسائل الإتصال
الشخصية لاستخراج مكنوناتها ومدى حجيتها كدليل (2) وفي الختام نستعـرض
الدروس المستخلصة (ثالثا).
تقول العرب اختلط الحابل بالنابل إذا تشابك الأمر ولم يتبين الصواب من
الخطأ، إلحاقا بالتداخل في المعارك وتشابك المقاتلين، عندما يتراجع
النبالة إلى الخلف ويلتحمون بذوي الحبال، لذلك ارتأيت عنونة المحور
القانوني بالحابل وتتويج المحور القضائي بالنابل ولأن الإجراءات القضائية
ملزمة باتباع المسطرة التشريعية المقررة فمن الموارد البدء بالمحور
القانوني.
أولا/ المحور القانوني الحابل
نتناول في هذا المحور إجراءات المتابعة الجنائية العادية (1) قبل بيان
خصوصية مسطرة التلبس (2) ومقاصد الحصانة البرلمانية وحدودها (3).
1. مسطرة المتابعة الجنائية العادية:
تبدأ المسطرة التقليدية لمتابعة الجرائم بالتحريات التمهيدية لتحديد
المسؤوليات وبيان الملابسات وهي عملية تتعهد بها الشرطة القضائية (من أمن
ودرك) وتباشرها في شكل بحوث تدرج نتائجها في محاضر تمهيدية (P.V
d’Enquête Préliminaire) يحيلها الضبط القضائي إلى ممثل النيابة العامة
(وهو لدى محاكم الولايات وكيل الجمهورية) الذي يتفحص مشمولاتها وما تثيره
من أدلة وقرائن ويقرر على ضوء ذلك الحفظ بدون متابعة إذا لم يلمس توفر
عناصر إجرامية أو أدلة كافية أو يكيف الأفعال جنائيا بتحديد النصوص
القانونية التي تشكل مرجع المتابعة ويحيل الملف إلى قاضي التحقيق لاتهام
شخص أو أشخاص معينين وتعميق البحث واتخاذ التدابير المناسبة فيما يتعلق
بتقييد حرية المتهم بوضعه تحت المراقبة القضائية أو حبسه مع ملاحظة أنه
لا يجوز للقضاة، طبقا لمعروف الإجراءات الجنائية الموريتاني، أن يأمروا
بحبس المتهم، قبل إدانته في الأصل، إلا لخطورة الوقائع أو المنع من إخفاء
الأدلة أو للخوف من هروبه أو للخشية من ارتكاب جرائم جديدة (م 138 من
معروف الإجراءات الجنائية الموريتاني). ولقاضي التحقيق في جميع الأحوال
أن يرفض طلبات النيابة كليا أو يجاريها جزئيا مع أن المشرع ألزمه بتعليل
قرارته. وعندما يختم القاضي التحقيق الذي تعهد به يقرر بناء على ما توصل
إليه أن لا وجه للمتابعة أو يأمر بإحالة القضية للمحكمة الجنائية أو
الجنحية المختصة في محاكمتها. هذه باقتضاب هي محجة المتابعة العادية ولكن
ثمة مسطرة خاصة تمنح النيابة العامة صلاحيات استثنائية هي مسطرة التلبس
(Procédure de Flagrance).
2. خصوصية مسطرة التلبس:
خول القانون لوكيل الجمهورية صلاحية حبس المتهم وإحالته المباشرة
للمحاكمة في حالات التلبس بالجنح بخلاف الجنايات التي يعتبر التحقيق فيها
إجباريا وحالة التلبس هي التي يضبط فيها الفاعل أثناء قيامه بالجرم أو
بعيد إكماله كأن تعاين مستفيضة شخصا يجهز على آخر فيرديه قتيلا أو جريحا
ويتبع الناس الفاعل حتى يضبطوه في وقت قريب من ارتكاب الفعل ومن أمثلته
أن يمسك بيد السارق في الخنشة أو يضبط حاملا المسروقات أو المحظورات
(ينحكم فادبش).. وقد نصت المادة 46 من معروف الإجراءات الجنائية
الموريتاني على أنه: " تكون الجناية أو الجنحة متلبسا بها: 1. إذا ضبط
الفاعل أثناء ارتكاب الجريمة أو على إثر ارتكابها، 2. إذا كان الفاعل ما
زال مطاردا بصياح الجمهور، 3. إذا وجد الفاعل بعد مرور وقت قريب على
ارتكاب الفعل حاملا سلاحا أو أمتعة أو ظهرت عليه آثار أو أدلة تحمل على
الإعتقاد بأنه شارك في الجناية أو الجنحة.." وسيشاطرني المستنبطون الرأي
بأن صياغة ".. على إثر ارتكابها" غير موفقة لأن التعبير مرسل لا يفيد
الفورية اللازمة للتلبس علاوة على أن مفهوم مخالفة العبارة يوحي بأن
المتهمين غير المتلبسين يتابعون دون ارتكاب جريمة!! وقد جاءت النسخة
الفرنسية، من هذا النص، أكثر دقة:
(tout crime ou délit qui se commet actuellement ou qui vient de se
commettre) لأنها عبرت عن لزوم الفورية باشتراط التتابع الزمني بين الفعل
ونتيجته.
وبالانطلاق من مفهوم التلبس، المعروف في الأوساط القانونية بتسميته
اللاتينية In flagrante delicto والمعتبر أشنع من الجرائم العادية لجسارة
مرتكبه ومن المادة 46 من معــروف الإجراءات الجنائية الموريتاني، يتبين
أن التلبس قرين للجرائم العمدية وأن تكييف الأخطاء بأنها أفعال تلبس لا
يجد مسوغا قانونيا أو عقليا فبأي منطق يتابع الشخص على عثرة لم تتجه
إرادته إليها وكثيرا ما كان المتضرر الأول منها كما يظهر من آثار أغلب
حوادث السير مثلا.. وحتى إن كان ثمة خطأ من درجة ما فكل ابن آدم خطاء وفي
الحديث الشريف "عفي عن أمتي الخطأ والنسيان".. ولأن كل بلد يضع قواعد
التجريم ويحدد سياسته الجنائية بالانطلاق من قيمه ومصالحه ومساهمة في فك
التداخل بين القانون والسياسة أدرج هنا بعض الملاحظات التي أثارتها
متابعة عضو في البرلمان إثر حادث سير والتي يتطلب فهمها التمهيد باستعراض
أحكام الحصانة البرلمانية وأثرها.
3. مقاصد الحصانة البرلمانية وحدودها:
كثيرا ما أدى نشاط البرلمانيين إلى مخالفة توجه السلطات الأخرى وبخاصة
السلطة التنفيذية التي قد تخول لها نفسها عقاب أعضاء السلطة التشريعية
المخالفين لتوجهاتها لذلك فقد نصت أغلب الدساتير على تمتع البرلمانيين
بحصانة تهدف لحمايتهم من المضايقات المحتملة بسبب آرائهم ومواقفهم
السياسية وتصويتهم وتتجسد الحماية في منع متابعتهم أو البحث عنهم أو
توقيفهم إلا في حالات التلبس. وفي هذا الصدد نص الدستور الموريتاني في
مادته 50 على ما يلي:
"لا يرخص في متابعة عضو من أعضاء البرلمان ولا في البحث عنه ولا في
توقيفه ولا في اعتقاله ولا في محاكمته بسبب ما يدلي به من رأي أو تصويت
أثناء ممارسة مهامه.
كما لا يرخص في متابعة أو توقيف عضو من أعضاء البرلمان أثناء دوراته
لأسباب جنائية أو جنحية ما عدا التلبس بالجريمة إلا بإذن من الغرفة التي
ينتمي إليها.
لا يرخص في توقيف عضو من أعضاء البرلمان خارج دوراته إلا بإذن من مكتب
الغرفة التي ينتمي إليها سوى في حالة التلبس بالجريمة والمتابعات المرخص
فيها أو حكم نهائي بشأنه.
يعلق اعتقال عضو البرلمان أو متابعته إذا طلبت ذلك الغرفة التي ينتمي إليها."
ومن الجلي أن منع المتلبس بالجريمة من الإستفادة من الحصانة إجراء وارد
فليس من المقبول أن ينتهك الشخص حرمة المجتمع بمجاهرته بارتكاب جريمة
عمدية واضحة للجميع ويستفيد من الحماية العامة لما يترتب على ذلك من خلل
اجتماعي.. وبهذا المنطق وبناء على ما أوردنا أعلاه فإن حالات التلبس
يتعين أن تقتصر على الأفعال العمدية لأن من المجانف للأخلاق أن تكون
عقوبات الأخطاء أشد من عقوبات الجرائم العمدية التي تتجه إرادة مرتكبها
إلى العدوان بينما ينتج الضرر الناجم عن الأخطاء دون إرادة أو تدبير
المخطئ. ولترسيخ المفاهيم النظرية نتناول في المحور القضائي مجريات قضية
محمد ولد غده وما نجم عنها من متابعات تثير إشكالات قانونية تستحق البحث.
ثانيا/ المحور القضائي النابل
علاوة على واجب تفحص مدى تقيد السلطات بالمقتضيات القانونية في ممارسة
مهامها تتطلب الإحاطة بمفاهيم التلبس والحصانة استعراضهما في الواقع
ولتحقيق ذلك الهدف نتناول قضية السيناتور محمد ولد غدة (1) والمتابعات
الناجمة عنها وما شاكلها من استنباط الأدلة من المراسلات الخاصة ومدى
حجيتها كوسائل إثبات معتبرة أمام القضاء (2).
1. قضية السيناتور محمد ولد غده "التلبس بالخطأ":
بينما كان انتباه الرأي العام الموريتاني مشدودا إلى الشيوخ إثر إلغائهم
لمبادرة رئيس الجمهورية الرامية إلى تمرير التعديلات الدستورية بتصويت
يوم 17 مارس 2017 وكان بعض المتابعين يتوقع أن تنزل بهم السلطة التنفيذية
عقوبة ما بعد أن خالفوا توجهات الرئيس وبينما كان الشيخ محمد ولد أحمد
ولد غدة (وهو أحد البرلمانيين المعارضين الناشطين ضد التعديلات
الدستورية) يقود سيارته على مقربة من مدينة روصو (عاصمة ولاية اترارزه)
في يوم 12 مايو 2017، إذ اعترض طريقه حيوان بطريقة دفعت الرجل للإنحراف
الفوري بمركبته عن الطريق الوطني فأدى صوت انحراف السيارة المسرعة إلى
خروج أشخاص مذعورين يبدو أنهم كانوا في عريش على حافة النهج (بحسب بيان
الدفاع) فصدمت السيارة بعضهم مما أدى لجروح بالغة نتجت عنها وفيات
عاجلة.. وبناء على الحادث ورغم تنازل ذوي الضحايا عن شكواهم إثر التصالح
بشأن الأضرار المدنية، تم توقيف البرلماني لدى فرقة الدرك المختصة، قبل
أن تحيله إلى النيابة العامة لدى محكمة ولاية اترارزة، التي كيفت الحادث
بأنه تلبس بالقتل الخطأ، وأمرت بإيداع البرلماني في السجن وردا على ذلك
التأمت غرفة مجلس الشيوخ وقررت تعليق متابعة عضوها على أساس المادة 50 من
الدستور وبعد تردد استجابت النيابة لقرار المجلس البرلماني وفي يوم
17/05/2017 وأصدرت الغرفة الجزائية بمحكمة ولاية اترارزة أمرها رقم
09/2017 القاضي بتعليق اعتقال السيناتور إلا أن السيارة ووسائل اتصال
الشيخ (هواتفه الذكية) بقيت قيد الحجز. وبعيد انتهاء الدورة البرلمانية
تمت إعادة توقيف الشيخ بناء على أمر أصدره رئيس الغرفة الجزائية بمحكمة
ولاية الترارزة بطلب من النيابة العامة تمهيدا لمحاكمته التي جرت في يوم
13 يوليو 2017 وأسفرت عن الحكم عليه بالحبس ستة أشهر موقوفة التنفيذ
وغرامة 20.000 أوقية مما أدى لإطلاق سراحه.
وبالنظر لتزامن تلك الوقائع مع ظروف تجاذب سياسي وتوتر بين الأغلبية
والمعارضة فعلته أجواء حملة التعديلات الدستورية فقد تم تسريب تسجيلات من
مكالمات الشيخ محمد ولد غده يغلب الإعتقاد أنها استخرجت من وسائل اتصاله
المحجوزة من طرف السلطات الرسمية وتضمنت رسائل صوتية يقدم الشيخ فيها
تفصيل مبالغ يبدو أنه دفعها لسياسيين وطنيين ويعتقد أن تقاريره الشفهية
موجهة لرجل الأعمال المغترب محمد ولد بوعماتو وتطور الوضع إلى أن اعتقل
السيناتور للمرة الثالثة يوم 10 أغشت 2017، قبل أن يكتمل شهر على إطلاق
سراحه إثر محاكمته واتهم بالرشوة وبأفعال وصفها بيان صادر عن النيابة
العامة بأنها "جرائم غير أخلاقية وعابرة للحدود" وشملت التهمة رجل
الأعمال المغترب محمد ولد بوعماتو وأعضاء في مجلس الشيوخ وبعض النقابيين
والصحفيين ولا يزال الرأي العام ينتظر المحاكمة إلى حين نشر هذا المقال
(25 يناير 2018). وتثير متابعة السيناتور وزملائه إشكالات قانونية تتعلق
بمدى جواز استخدام المراسلات الخاصة كأدلة إثبات شرعية.
2. استخدام المراسلات الخاصة كأدلة قانونية:
تضمن أغلب الشرائع المعاصرة المحافظة على خصوصيات الفرد وتكفل سرية
مراسلاته الخاصة وتحميه من إفشائها وفي هذا الإطار تنص الفقرة الثالثة من
المادة 13 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية على ما يلي: "تضمن
الدولة شرف المواطن وحياته الخاصة وحرمة شخصه ومسكنه ومراسلاته. يمنع كل
شكل من أشكال العنف المعنوي والجسدي".
وعلى المستوى التشريعي جسد القانون الموريتاني مبدأ حماية المراسلات
الخاصة في المادة 391 من معروف الإجراءات الجنائية الموريتاني التي تنص
على منع استنتاج الدليل الكتابي من المراسلات بين المتهم ومحاميه بينما
تناولت بعض التشريعات الموضوع بتحديد أكثر.
وتطرح متابعة السيناتور محمد ولد غده إشكالات قانونية لا تقف عند حبسه
بالإستناد إلى تكييف الخطأ على أساس التلبس، كما فصلنا في المحور الأول
من هذه المعالجة، وإنما تتجاوز ذلك إلى مدى جواز استخراج الأدلة من وسائل
اتصاله الخاصة دون رضاه ومدى حجيتها في هذه الحالة وحرصا على تناول
الموضوع بطريقة مجردة أستشهد بما أورده الدكتور الحبيب بيهي، الأستاذ
بكلية الحقوق بالدار البيضاء، في مقاله "المشروعية في البحث عن الأدلة
الجنائية"، الذي يفترض أنه غير متأثر بنازلة ولد غده بحكم اختلاف الزمان
والمكان، والذي أورد في مقاله ما يلي: "إن مفهوم المشروعية في البحث عن
الأدلة الجنائية يجب أن يتسع ليشمل مطابقة العمل للقانون من جهة ومطابقته
للضمير الأخلاقي لذلك فالمشروعية تنطوي على عنصر قانوني وعنصر أخلاقي..
ويثور التساؤل في هذا الصدد حول مشروعية الأدلة المحصلة بالخدعة أو
الحيلة كاستراق السمع للمكالمات أو انتهاك حرمة المراسلات أو التظاهر
بمظهر خادع من طرف الباحث أو نصب الكمين لاستدراج المتهم نحو الوقوع في
حالة التلبس". ويخلص الدكتور في مقاله إلى خلاصة مؤسسة هي أن "حضارة
الأمم لا تنعكس في جودة قوانينها وما تحتويه تلك القوانين من ضمانات
وحقوق وإنما تكمن في أخلاق أو ضمائر أبنائها وفي الإرادة السياسية
لمشرعيها وإن المشروعية في البحث عن الأدلة الجنائية فرصة لاختبار هذه
الضمائر ونهج لضم جهود المشرع إلى جهود القائمين على تطبيق التشريع ضمن
سياسة جنائية تعترف للإنسان بكرامته وتسعى لإيجاد التوازن بين حقوق
المتهم وحق الدولة في العقاب".
ثالثا/ الدروس المستخلصة
نستخلص من هذه المعالجة عدة دروس منها:
1. أن تكييف حوادث السير، مهما نجم عنها من أضرار، على أساس أنها جرائم
تلبس يعد غير مؤسس لأنه ينافي الأخلاق التي هي منبت القانون لذلك فلا
قائل بحبس أب مكلوم بسبب حادث مروع فقد على إثره زوجه وبعض فلذات كبده
وكان من الجائز أن يسلم جراءه روحه وبناء على ذلك تتعين مراجعة مفهوم
التلبس وتطبيقاته في إطار العمل على التأسيس لسياسة جنائية وطنية متبصرة.
2. أنه علاوة على مأخذ "التلبس بالخطأ" يتعين أن نلاحظ أن متابعة
السيناتور محمد ولد غده تعتبر غير مؤسسة لأنه ارتكب الأخطاء التي توبع
على أساسها أوان استفادته من الحصانة البرلمانية المنصوص عليها في الفقرة
الثانية من المادة 50 من الدستور: "لا يرخص في متابعة أو توقيف عضو من
أعضاء البرلمان أثناء دوراته لأسباب جنائية أو جنحية ما عدا التلبس
بالجريمة إلا بإذن من الغرفة التي ينتمي إليها." وإذا افترضنا جدلا جواز
المتابعة فإن إدراج مخالفة القيادة بدون تأمين ضمن لائحة الاتهام يعد غير
مؤسس لأنه لا قائل بمتابعة برلماني مستفيد من حصانة تقيه من "كبائر"
الجنايات والجنح بسبب "صغائر" المخالفات لأن إعفاءه منها من باب أولى
وضمير البرلماني ورقابة المجتمع زاجران كافيان لصده عن هشيم الجرائم ومما
يمنع أن "يغلظ فتيل التهم" أن من يرتكب عدة جرائم وجنح لا تجمع له
عقوباتها وإنما يحاسب بأشدها طبقا لمعروف العقوبات الموريتاني (م 5). فلو
افترضنا أن السيد وكيل الجمهورية لدى محكمة ولاية اترارزة، وقاه الله،
كان في مركز الشيخ محمد ولد غده وتسبب في حادث أليم أدى لإزهاق أرواح
بشرية بريئة: هل ترضى ذائقة المجتمع وسلطاته أن يقتاد القاضي ويوقف في
مخفر أعوان الأمس وأن يكيف فعله بأنه تلبس وتصدر في حقه بطاقة إيداع.. إن
المنطق والفطرة السليمة لا تقبلان بأن يدخل وكيل الجمهورية السجن نزيلا
إلى جانب الماثلين أمامه بالأمس، إلا عندما يرتكب جريمة عمدية لا مراء
فيها وحتى في هذه الحالة تتعين محاسبته وحبسه بعيدا كي لا تنكسر هيبة
السلطة، فالمتابعة غير المتبصرة لا تخدم المجتمع بل تضره ومثلما يقوم
وكيل الجمهورية لدى محكمة ولاية اترارزة بخدمة وطنية هي تمثيل النيابة
العامة في دائرة اختصاص محكمته كان الشيخ محمد ولد غدة عند متابعته يقوم
بخدمة وطنية أشمل تتمثل في المصادقة على التشريعات النافذة في كافة
ولايات الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
3. أن حرمة المراسلات الشخصية مضمونة بموجب المادة 13 من دستور الجمهورية
الإسلامية الموريتانية التي تنص على ما يلي: "تضمن الدولة شرف المواطن
وحياته الخاصة وحرمة شخصه ومسكنه ومراسلاته. يمنع كل شكل من أشكال العنف
المعنوي والجسدي" وعلى ذلك الأساس فإن الحفاظ على حرمة المراسلات منوط
بالقضاء إلحاقا بالحرية التي كفلتها المادة 91 من الدستور التي ورد فيها
ما يلي: "لا يعتقل أحد ظلما. فالسلطة القضائية الحامية للحرية الفردية،
تضمن احترام هذا المبدأ في نطاق الشروط التي ينص عليها القانون." وبناء
على ذلك فمن غير المستساغ التغاضي عن إفشاء أعوان القضاء لمواد محمية
يكفل القانون سريتها أحرى اعتبار المواد الصوتية المنتزعة بطريقة تعسفية
وسائل إثبات شرعية.
4. أن إهدار الحصانة وحبس المستفيد منها دون فعل عمدي فاضح، لا دخل فيه
للحسابات السياسية، وإهدار الحريات الدستورية المتجسدة في حرمة المراسلات
الخاصة ترتب أضرارا كبيرة على المجتمع داخليا وتمس بسمعة البلد في الخارج
لأن احترام الحريات يشكل تقيدا بالدستور وبالإتفاقيات الدولية التي صادقت
عليها موريتانيا واحتراما للمنظومة التشريعية الوطنية وفي غياب هيئات
رقابية وطنية مستقلة ذات مصداقية وجدوائية تدعم المناعة الداخلية ضد
التعسف، لضعف السلطة القضائية ومحدودية الآلية الوطنية للوقاية من
التعذيب واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، يتعين الانتباه لوجود رقابة
خارجية يقظة في مقدمتها الآليات الأممية التي أصدرت تقارير تعكس القلق
الدولي من انتهاكات حقوق الإنسان في بلدنا، لعل آخرها رسالة مجموعة العمل
ضد الحبس التحكمي التابعة للأمم المتحدة المؤرخة 19 يناير الجاري والتي
بدأت من خلالها مساءلة الحكومة (ولو بلغة دبلوماسية كيسة) عما أسمته حالة
حبس تحكمي يطلب من موريتانيا الرد على مدى تأسيسها على القوانين النافذة
وطنيا في أجل حددته مجموعة العمل طبقا لمساطرها بستين يوما.
5. إن تأمل المقتضيات القانونية ينبغي أن يلفت انتباه المسؤولين عن إنفاذ
القانون إلى أن سلاحهم على درجة من الخطورة تجعل إساءة استخدامه زلة
وخيمة العواقب فلربما ارتدت الطلقة إلى مصدرها ولإدراك ذلك تمكن مطالعة
المادة 111 من معروف العقوبات الموريتاني تنص على ما يلي: "يعاقب الموظف
العمومي أو العون أو المأمور الحكومي بالحرمان من الحقوق الوطنية إذا أمر
أو قام بعمل تحكمي أو عدواني ماس سواء بالحرية الشخصية للفرد أو بالحقوق
الوطنية لمواطن أو أكثر أو بالدستور. إلا أنه إذا أثبت أنه تصرف طبقا
لأمر رؤسائه وفي موضوعات داخلة في اختصاصهم تجب في نطاقها الطاعة حسب
التسلسل الإداري يعفى من العقاب الذي يطبق في هذه الحالة على رؤسائه
الذين أصدروا إليه هذا الأمر" وتضيف المادة 112 الموالية تحديدا أكثر:
"إذا كان الوزير هو الذي أمر أو قام بالأعمال المنصوص عليها في الفصل
السابق أو أحدها يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة."
- يتواصل –