يذكر بول ستراثرن في كتابه "نابليون في مصر" (Napoleon in Egypt)، أن نابليون حمل معه في طريقه لغزو مصر مكتبة رتبت على متن سفينته بشكل دقيق. ففيها قسم للسياسة، وقسم للدين، وقسم للتاريخ... إلخ،
لكن الملاحظة الجديرة بالتنويه أن الكتاب المقدس الوحيد الذي وضعه نابليون في القسم السياسي، باعتباره كتابا سياسيا كان القرآن الكريم! وضعه في القسم السياسي، ولم يضعه حيث وضع الكتب المقدسة الأخرى مثل التوراة والإنجيل وغيرهما. وتلك لفتة دقيقة من رجل ماكر ترجمها فعلا في تعاطيه مع الأزهر عندما احتل مصر. كان لنابليون فهم عميق لمكامن القوة في دنيا المسلمين. تذكرت هذه القصة البارحة بعد أن أدرت جهاز التلفاز فوقعت عيناي على خبر صعقت لصفاقته: "الأزهر يعلن أن بناء الجدار حلال شرعا". وبعد هنيهات من قراءتي للخبر أطل من القاهرة أحد من يوسمون بـ"علماء الأزهر"، ليقول: "إن هذه الفتوى صحيحة، وإنها تعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي، فالجدار الذي تبنيه مصر لا يستهدف أهل غزة ولا يتهمهم بتهديد أمن مصر، وإنما هدفه حماية أمن مصر لا غير!". أسقط في يدي رغم أني لم أكن في يوم من الأيام ممن ينتظر كبير خير من الأزهر أو من غيره من المؤسسات الدينية الرسمية التي ترزح تحت نير الاستبداد. فقد حفظت وليدا قول أحد العلماء: «إذا رأيت العالم يلازم السلطان فاعلم أنه لص.. وإذا أكل العالم من مرقة السلطان احترق لسانه عن قول الحق». لقد اقتنعت قديما أن معظم المشايخ "الرسميين"، يعانون من احتراق مزمن في ألسنتهم، ولدته عقود من مشاركة السلاطين مرقهم، وضاعفت منه تقحماتهم الفقهية محاولين ليّ أعناق النصوص وبتر سوقها لاستصدار فتاوى "حسب الطلب".
* ودخلت الخيل الأزهر: منذ تأسيسه منتصف القرن الرابع الهجري، ظل الأزهر من أهم المؤسسات العلمية في منطقة مصر وما جاورها. وقد ظل ـ كذلك ـ صمام أمان ثقافيا تنحسر عند أبوابه كل طعنات التمييع سواء كان مصدرها غازيا خارجيا ينوي استئصال الشأفة أو داخليا مستبدا يريد "شرعنة" الظلم والاستبداد. ومن الطريف أن حس نابليون وحذره لم يفيداه شيئا إذ صدق حدسه. فانطلقت الثورة عليه من داخل الأزهر، حيث اجتمع علماؤه وأسسوا "لجنة الثورة"، التي قررت إغلاق أبواب الأزهر حتى التحرير، وبدؤوا مقارعة المستعمر إلى أن دحر بعد ذلك بثلاث سنوات، وخرج نابليون تحت جنح الظلام كما وصفه محمود شاكر ولسان حاله يردد قول بشار: إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها خرجت مع البازي علي سواد يبدو أن الرئيس مبارك هو الآخر يضع القرآن في القسم السياسي من مكتبته هذه الأيام رغم مناداته بفصل الدين عن الدولة. لقد ألف الكاتب المصري محمد جلال كشك كتابا ثمينا عن حملة نابليون على مصر عنونه بعبارة كثيفة تدل على مكانة الأزهر في نفوس المصريين هي: "ودخلت الخيل الأزهر!". إي وربي! لقد دخلت الخيل الأزهر أيام نابليون لكنها خرجت منه، أما اليوم فقد دخله الجنيه واستقر، ودخلته دسائس الساسة القذرة، وتم تدجينه حتى فقد صبابة الاحترام التي كانت بقيت له في نفوس بعض الناس. قد يكون مما لا يدركه "علماء الأزهر" أن فتاواهم أصبحت فاقدة لقيمتها، فالأزهر أصبح يعاني من كل الفيروسات التي تصاب بها المؤسسات الفاسدة التي تعيش تحت النظم الاستبدادية.
* من شيخ الأزهر؟ يرجع المعنى اللغوي لأصل الشيخ إلى المكانة والرئاسة، لا إلى الفضل والمشيخة المتعارف عليه اليوم فتلك دلالة طارئة. ويمكننا أن نتكئ على المعنى اللغوي للكلمة وعلى شهادة الوقائع وحادثات الليالي لنفهم أن الشيخ الحقيقي للأزهر اليوم ليس "سيد طنطاوي"، وإنما "سيد مبارك"، فهو صاحب المكانة الذي يقرر الاتجاه العام للأزهر وعلى سياساته يتم قص مقاس الفتاوى مهما شذت ومهما حابت الصهاينة. لكن ما يطمئننا ـ وعلى مشيخة الأزهر أن تفهمه ـ أن مثل هذه الآراء والفتاوى لا تجد لها أي احترام بين الناس. فالفتاوى التي يسطرها الأجانب المعتصمون وسط القاهرة أندى صوتا وأدخل في باب الحق من تلك التي تلوكها مشيخة احترقت ألسنتها عن قول الحق. إن اعتصامات الأجانب وسط القاهرة توجد له آيات بينات لا تحتاج إلى لي، إذ يدخل تحت عموم الآيات التي تتحدث عن مناصرة المظلومين ونصرة الحق وإطعام الجوعى، أما "الفتاوى الحائطية" للأزهر، فلا بد لها من مقدمات وشرح وتعليل. لقد تقاعس الأزهر منذ أحقاب في جميع المجالات. فالناس منذ سنوات لا يسمعون عنه خبرا إلا لتسويغ التطبيع أو الجدر العازلة أو لتسويغ توريث الاستبداد. والأمر ليس أفضل على المستوى العلمي. فقد انطلقت صيحات كثير من خريجي الأزهر محذرة من التدهور الخطير الذي عرفه على المستوى العلمي. وقد شاء ربك أن أحتك ببعض خريجيه ممن يزعمون التخصص في "اللغة العربية" فتفاوضنا الحديث في بعض الأمور فألفيتهم نقائذ بؤس يخيل إليك عندما تتحدث معهم في المجالات اللغوية والشرعية أنهم خريجو جامعات كولومبيا/تخصص بيطرة، مع صفاقة وجه عز نظيرها، على أني لا أعمم ففي كل مجال استثناءات وشذوذ. إن الأزهر ليس الأزهر الذي عهدتموه. ليس أزهر شلتوت ولا المراغي ولا كشك ولا القرضاوي ولا الغزالي. إنه إحدى المؤسسات المصرية التي تذوقون مرارة التعامل معها كلما مررتم بمطار القاهرة أو اضطررتم ـ كمصريين ـ لمراجعة إحدى المؤسسات لاستصدار ورقة ما. لكأنه كتب على مصر في هذه الفترة من التاريخ أن يكون عنوان دنياها كلها بيت أبي الطيب المتنبي وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكا! إن الجدار الفولاذي الذي تحاول مصر دقه في خاصرة غزة لن يضيرها، لكن يبدو للأسف أنه دق في خاصرة الأزهر وفي خاصرة حكومة مصر، وتلك حقيقة سيستفيق عليها المصريون في آتي أيامهم ولات حين مندم