ساعة من الحرب تهدم حضارة، وداعية حرب يقود بلدا إلى فشل خطط تنمية بنتها أجيال متتالية،فما أغنت عن عبس وذبيان رجالها، وما ثقلت موازين أموال من دبت بينهم حروب الكلام وتصفية الأقران،تلك سنة الأولين ، وهي لعمري سنن من ذهبت قوتهم من الأحدثين،هي ذي اليمن بجنوبها وشمالها، هي ذي السودان بمسلميها ومسيحييها، هي ذي الشام والعراق بمديها وديينارها، وبعربها وكردها، وهي ذي الكنانة بأردبها وبأهراماتها،
وتلك ليبيا عمر المختار، تتحول ديار كانت مصانع الرجال والعلم والرزق الحلال، والأدب والفتوة وجميل الخيال ، إلى مختبرات للدماء والأحقاد والأشلاء..لاعين رأت أمسها، ولا أذن سمعت حاضرها، ولا قلب خطر عليه ما تتلظى فيه النفوس، وتفزع إليه من تنازع البقاء.
ومن تنازع البقاء ، أن يظن المتقاتلان أن قتل أحدهما للآخر هو الفوز ومنتهى الصراع، فما أنجت ذنوب الخلوات من يأتي يوم الدين بحسنات جبال تهامة، وماترك قطع الأرزاق والأعناق، لأمة ذكرا محمودا ولا سلطانا ممدودا، الدم الدم، والقطع القطع، خلوت بسلطان كسرى أو خدمت سلطان روما، أو بنيت ارم ذات العماد قصورا وجنانا، رحم الله فردوس الأندلس كم حوت من كنوز، وكم دفن فيها من عرين، وكم حرقت فيها من مكتبات، وكم عيث فيها من فساد مبير، أورث هذا الشر المستطير؟
لله در زهير بن أبي سلمى حين شتم الحرب في معلّقته قبل الإسلام، مادحا من أطفأها:
تداركْـتما عبْـساً وذبْـيان بعدمـا
تنادَوا ودقّوا بينهم عطرَ منشمِ
وما الحرب الاّ ماعلمتمْ وذقتمو
وما هو عنها بالحديث المرجّمِ
متى تبعثوها تبْـعثُـوها ذميـمةً
وتضْرَ اذا ضرّيتموها فتضرمِ
فتعرككم عرك الرحى بثغالها
وتلقـحْ كشافـاً ثم تنتجْ فتـتْئـمِ
فتنتج لكم غلمان أشْـأم كلهـم
كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطمِ
وجاء الإسلام العظيم ، دوحة الخير، ليقرر بأن القاتل والمقتول في النار، لأن المقتول كان حريصا على قتل أخيه المسلم،وجعل من يقتل المعاهد والذمي يقتل ولوكان عصبة.
ومن حكم من أنهوا الحروب، قول كاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:" لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، لو أن بيني وبين الناس شعرة ما أنقطعت أبدا، كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها"، وأفلاطون حكيم حين يقول:" تسقط الرجولة عندما يرتفع صوتك على من تعب في خدمتك".
وفي بيئة الحروب تنمو الدسائس، وتكثر المكائد، ويزداد نفوذ الوشاة ، ويكون الخوف على المصالح والمنافع شاملا وكما يقول الفيلسوف الروماني هوراس:" من يعش في خوف لن يكون حراً أبداً ".
ولكي ندرك ضرر الوشاة، فعلينا أن نقرأ سير النبلاء، ودواوين الشعراء، وحياة السلاطين والملوك، وأسباب زوال الدول، و انكشاف حضارات الرقي والسلم، فما
سم من سم ، وما هوى ملك من تملك، إلا بسبب الوشاة.، قليلي الحيلة، كثيري الصمات، عييي الألسنة، كثيري الدخان والطلاسم، عليلي الأبدان والجوارح، قليلي الركوع والسجود، النفاثين للحقد والعقد، الذين يخلون بالسلاطين فلا يأتونهم بذكر ولا حكمة ، ولكن بقطع أعناق أو قطع أرزاق، فكيف بهم اذا بلغت القلوب الحناجر، وخشعت الأصوات للرحمن، فلا تسمع إلا همسا، عند ملك الملوك الذي لا ينظر إلا الى الأعمال والقلوب؟
والواشي كذوب يرائي، وكذوب يسمع، وكذوب يحكي، وكذوب يصفق، وكذوب يشي، وكذوب ينقلب ويتقلب، وكذوب يبارز وينهز، وكذوب يغمض عينيه وينظر، وأشر وهو يشير، وأشر يلمز وأشر يغمز.
هؤلاء المرجفون في المدينة، الأكالون للسحت، يقسمون لكم بأيمان وهم يحنثون، ويعدونكم بأحلام وهم لا يسبتون، ويبنون ما لايسكنون، ويقولون ما لا يفعلون، ويأملون مالا يدركون، ويجمعون ما لا يأكلون، وقد ينامون ولا يستيقظون.. متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون.
فعلى هؤلاء يراهن من لا مروءة له، ويطرق أبوابهم من لا مستقبل وأنفة له.، ولا إصلاح ولا خلاص إلا بالخلاص منهم،كذاك فعل بأصحاب الافك، وكذلك فعل العمري الأول، وكذلك سميه.
وكما قال ضمرة بن ضمرة- واستعارة كلامه هنا جائز الواشي الداء العياء والسوأة السوآء ، لأن عجزه الظاهر بين في قليل الحيلة، إذا غضب ترضى، وإن رضي تفدى. ولأن الواشي فقره حاضر لايشبع نفسه, وإن كان من ذهب حلسه. وهو الداء العياء : جار السوء ،إن كان فوقك قهرك, وإن كان دونك همرك،وإن اعطيته كفرك,وإن حرمته شتمك. ان جاورته فاخل له دارك، وعجل عنه فراقك، وإلا أقم بذل وصغار ،وكن ككلب هرّار. وهو السوأة السوآء: كالحليلة الصخابة ، الخفيفة الوثابة ، السليطة السبابة، التي تضحك من غير عجب ،وتغضب من غير غضب, الظاهر غيبها، المحفوف عيبها، فرفيقها لا يصلح له حال،ولا ينعم له بال،إن كان غنيا لم ينفعه غناه,وإن كان فقيرا أبدت له قلاه ، فأراح الله من الوشاية شنقيط والدواة ، ودجلة والفرات، ومن
لايريد للعرب والعجم هذه السوءات.