نبدأ هذه الحلقات من فكرة إعادة التأسيس، لنقول ان المؤسس الأول لموريتانيا ان لم نقبل تاريخيا بأنهم المرابطون والمعقليون والفوتيون، بما يرمزون له من أجناد الفاتحين ، والمعربين، والمجاهدين ،وهذا المزيج من صناعة المحظرة وبلد القصيد،
ومهجع الحجاج العلماء العارفين،الذين يؤمون البيت ويأزرون اليه على أقدامهم، وآلاف شهداء المقاومة الوطنية ضد المستعمر، فمن هم اذا؟
منذ57 سنة كان انشاء ادارة لهذا المنكب البرزخي، بلا رؤية سوى همزة الوصل،حاجة فرنسية لادارة مستعمراتها القديمة،
في اطار رسم خارطة ما بعد مقتل كبلاني ، وتنفيذ وعد الجنرال ديكول،فاختار الفرنسيون رسم الحدود، وتكوين من تسلمهم مقاليد الأمور، وبقوانينها حددت صيغة الدستور، واللغة الرسمية، والتشريع الوضعي، والمدرسة، واستغلال المعدن،
واختيار الحكومات،وربطتنا بالافرنك، وسجلتنا ضمن حظيرة الدول الناطقة باللغة الفرنسية، وكانت مرتبات الموظفين تسدد من الخزينة الفرنسية، ولهذا يحق لمن ارتبط بهذه الأجندة، ودندن مع السفراء والحاميات والحاويات ، أن يفتخر بمرحلة التأسيس هذه.
لا يعني هذا البتة، أن نغمط حق الوطنيين في هذه المرحلة ، فقد كان لرجال قضوا نحبهم،أولا يزالون يعضون بالنواجذ على نهجهم، يمثلهم بجدارة عمدة أطار وزعماء النهضة، ومدرسة بوتلميت الاسلامية ، وفي التشريع العلامة بن بيه والمجاهد محمد سالم ولد عدود، وفي الامامة الشيخ بداه بن البصيري، وفي النضال التقدميون من كادحين وقوميين واسلاميين..كان لهم الفضل في تحقيق انجازات مطلبية من أهمها التأميم والتعريب
وضمان حرية الدعوة.
واليوم وبعض المغردين والمغادرين لمنجزات هذه الكوكبة، يلوكون شعار اعادة التأسيس، نقول لهم لنبدأ التأسيس من حيث بدأ.
لقد فشلت أحزاب المخزن في التأسيس للجمهورية الأولي والثانية والثالثة.
ونقولها صراحة ان النخبة المدنية لم تؤسس أحزابا ديمقراطية، بل سجونا وكانتونات يحلب ريعها أفراد، وبها يتكبرون على الفقراء، ويمارسون صنوف الاستهزاء بأصحاب الكفاءات، ومن يقدم رؤى وحلولا جذرية ووطنية خالصة.
وهذه الأحزاب سواء كبلت السلط، أو استحوذت على موارد،أو نكلت بالمناضلين، أو استخدمت لجلب ولاءات السفارات الأجنبية أو استنسخت تجارب الحركات الاديولوجية من خارج جغرافية البلد وحضارته الرقرارقة، لا تمثل نموذجا للتأسيس، بل نماذج للحقن المهدئة للمريض، والتبرير الفج للاختلالات.
فكم خدرت من تيارات شبابية، وكم أضاعت من أعمار نخب وطنية ، ذهبت الى النسيان والقبور، وكم تلاعبت بخطط وأنظمة، وكم ظلمت من مقاومين ومناضلين، وكم عرقلت من حقوق كفاءات وقامات؟
ويدرك أفراد المتشيعين ل"كهول السياسة" سواء منهم من يصبغ بالسواد شعره، أويتقلب كالحرباء في تحالفاته، أن الترويج
والاشهار للارهاب الفكري واستغلال النفوذ، وللصراعات العبثية لم يعد دواء للعليل، ولا مددا للكليل.
صحيح أن النخبة العسكرية التي أرغمت على السلطة بسبب الانسدادات التي كرستها تلك المعلبات السياسية، في نهاية حرب الصحراء المدمرة، وفي نهاية حقبة رحلة الديمقراطية الميترانية،ولافشال ردة البطاقة البيضاء والانحراف بقطار تغيير الخامس أغسطس، واجهت ثلاثة تحديات مزمنة هي الارهاب
والعناد والتآمر.
واذا كان دحر جماعات الغلو و استتباب الأمن أصبح منجزا، والمسار التنموي رغم عناد المقاطعين للحوارات السياسية حقق توازنات كبرى في أفق موريتانيا2019،وبدا التآمر على السلم الاجتماعي واضحا للجميع.
فان البلد خسر بسبب بلادة السياسيين في صفي المنتدى والحزب الحاكم، أو بسبب داء التحاسد الذي دب بينهم منذ رهان المعارضة المقاطعة على أجندة دكار، وشنشنة الرحيل، ومنذ اندلاع حرب داحس والغبراء في صف الأغلبية،بسببي العمل المنسق من أطراف خارجية تريد الانقلاب على السلطة، وتراهن على "كهول السياسة وكهوف الارهاب" من جهة ، وصراع مراكز النفوذ داخل الأغلبية نفسها على طرد خصومها من السفينة كلية، وبأساليب فجة وغير أخلاقية.
ان تصور البعض أن سيناريو تحكم مصرف ورجل أعمال في ادارة المشهد السياسي الموريتاني في أفق2019، يتجاهل الثورة الكبيرة التي شهدها المسرح السياسي الموريتاني، والاقليمي والدولي،وهذا ما يجعل المراهنة على الفوضى الخلاقة ، التي هي فلسفة جي8 ومموليها، واستخدام اللون والشريحة كواجهة، هذا الخيار متمحض الفشل، لأنه يقوم على تفكيك المشترك، وتدمير
منجز السلم والأمن، وتجارب اليمن وليبيا ومالي شاهدة على أن المؤسسات المدنية والقيم الديمقراطية هي أول خاسر عندما تشتعل الفتنة.
كما أن تصور فريق من الأغلبية أن احتكار مشهد الأغلبية هو أفضل خيار في هذه المرحلة هو انتحار سياسي، وأكبر خيانة لمشروع استمرار نجاحات فريق الأغلبية والمتحاورين معها من المعارضة التي تبحث عن رؤية وتقدم مصالح وطن.
دعونا نضع النقاط على الحروف، في المجال السياسي حقق أساتذة يحتلون مراكز في مشهد الأغلبية بعمل منسق، وبجهد مضن وئاما داخل الجامعات والكتلة الطلابية، فجاء من الأغلبية من يهدم هذا البنيان في جنح الظلام، ويحاول التشهير بهم ، وزرع الخلافات غير البريئة..انسحب الفريق الفائز والحالة اليوم
الأغلبية خارج السرب ولا تغرد.
في مجال السياسة تمت إدارة الخطاب السياسي مع المعارضة بنسق خطاباتها المتشنجة، واستمرت بيانات الحزب الأكبر تموء بالتنديد والشجب، دون أن توجد أرضية تواكب المنجزات، وتم
تقديم عاصفة احتلال مراكز القرار، وإحلال الإمعات فيها ، علي الترويج لحصيلة مشرفة للرئيس وفريقه، وتعمد الفريق السياسي وأيقنات الفعل المواكبة له، القاء زملائهم من السفينة، في يم عاصف.
ليس عيبا أن يعزل الرفاق، فمهام الادارة ليست ملكا لهم ، لكن من العيب أن نرمي القباطنة من السفينة المبحرة الى المجهول،
رجال ناضلوا معنا في الصفوف الأمامية في قمرة المعركة ووطيسها، يشهر بهم وينبذون ويكاد لهم، ليس لكونهم أعداء للمشروع بل لكونهم ينافسون في الولاء ويبلون أحسن البلاء، هذا النسق من الأداء السياسي ، جالب للضرر، جالب للغرر،جالب للشرر.
دعوني أسوق صراحة أمثلة ، إن سياسيا مثل سفير في اتجاه القبلة ، اووزير اقتصاد وتنمية في غابات افريقيا أويقف على سلسلة جبال موريتانيد، أو هو معتكف بواحة نخيل شنقيط، أوابنة وزير خارجية مرموق،وشباب فتية كونتهم الخزينة العامة، أو يمثلون جاذبية ثقافية أخاذة تضم دون رشوة أو اكراه،أو جاذبية انتخابية أتت دون بيع ذمم أو ضغوط مخزن، نراهم اقتنصوا قنصا، وهم متيمون في دعم مسار التغيير الذي يقوده الأحمد العزيز، أليس هذا مبررا كافيا، من مبررات انشاء لجنة للإصلاح ، ورفض حي لكل أشكال الانحناء والانبطاح.
شيء لايختلف عليه معارض وموال ، هو أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز ظل عصيا على الترويض الذي روض به الرؤساء أسلافه، فلا النخبة المؤدلجة احتوته، ولا رجال الأعمال المتغولين خفض لهم الجناح، ولا الدوائر الصهيونية والاستعمارية تملكته بود أو رهبة ، هذه القوة الناعمة هي ما يحبها الموريتانيون الوطنيون في شخص هذا الرئيس القائد.
الرجل الذي نقول بأنه يملك أوراقا من أهمها هذه الورقة التي تجعل من يظن أنه يخدعه يحسب له حسابا، مهما تموقع ، ومهما تمول ومهما قرب واستأسد.
ومهما اختلفنا مع الرجل في الحكم والسياسة ، فلا يختلف معه الأغلبية في ما أنجز في عهد المأموريتين في مرتكزات تأسيس شملت:
1- الأمن.
2- البني التحتية الأساسية.
3-الحريات الأساسية.
4- حقوق الفقراء والمهمشين.
5-تحرير الفضاء السمعي البصري.
6- محاربة الفساد.
7-ديلوماسية القوة الناعمة.
ولكي نحافظ على هذه المكاسب، فالرجل يبقى محوريا في العشرية القادمة، كصانع للتحول،وكبان ، وكرافعة ، وكمجرب، وليس كمحور للتجاذب.، كما يراه المتيمون بالتأسيس الأول الواهم، وكما يغرد أدعياء التأسيس الواهي.
يكفي أن نرى أن عهده حقق في مجال الإعلام محامد متعددة ، من أمثلتها : حصول البلد على أول منصة رقمية موريتانية، وتمهين مؤسسات الإعلام العمومي،وفتح خمس فضائيات وخمس إذاعات حرة، وإجازة قوانين توفر البطاقة الصحفية ، وتعترف بالإعلام الألكتروني، وإنشاء 13 إذاعة محلية مخصصة للتنمية، وإذاعة وفضائية للقرءان الكريم ، وإذاعة للشباب،وتمويل سنوي للإعلام الحر ، واستصدار قانون للإشهار، وإلغاء حبس الصحفي، والاعتراف بالتجمعات والروابط المهنية في هذا الحقل، ورعاية أهم مؤتمراتها.
هذا الحقل اليوم رؤية، وواقعا، ومنجزا ، الذي كان بقطبيه العمومي والخاص يقود الأرقام القياسية للبلد في مجال الحريات، ويضمن ولوج جميع الأطراف السياسية إلى قنواته العمومية والخصوصية، أصبح حضور الأغلبية فيه يرتكس ويتراجع باطراد ، وهو أمر قد يتجاهله الاتحاديون الذين يستغشون ثيابهم، ويداومون على أخذ مدوناتهم من بعض المواقع الكترونية، الموجهة أو المملوكة من قبل خواص.
ماذا فعلت الأغلبية في هذا الفضاء المفتوح، غير التنابز بالألقاب
والضرب من تحت الحزام لبعضها البعض؟
إعلام تعددي وتشاركي ومهني، أفضل من هوية إعلام مأجور ، يطوي الحسنات، وينشر السيئات،و يتقلب دائما في الولاءات.
إن صناعة مشهد إعلامي تعددي، مهني جديد ، بات أولوية الأولويات، للحفاظ على الديمقراطية ،ولصون البلد ،ولتطبيق مخرجات الحوارات ، ولتنفيذ سياسات الإصلاحات .
ويبقي التأسيس الحقيقي لحاضر إجماع وطني ، وغد مشرق، يدور رحاه بين : وضع رؤية وطنية جامعة، واختيار جاد لقيادات صدق لا تمتهن الإقصاء، ولا تتحزب ضد رفاقها.، ولا تمكر بأبناء جلدتها، فالحسود كالمكذب بالدين أبتر ولا يسود.