لا يرى عزيز لحد الآن أية حاجة لتغيير استراتيجيته الناجحة في قتل الوقت والمتمثلة في "ترك الأمور على ما هي عليه"، خاصة أنه لا يشعر بأي ظروف ضاغطة لكي يجد نفسه مضطرا للتعاطي مع ما تريده أغلبيته أو ---على الأقل- ما تريد سماعه منه، بل نراه يستمتع بحالة الغباء الطافح، فهو لاعب ماهر ويحب الإثارة .
إنه يتمتع بوضع مريح حسب اعتقاده،
عكس ما يروجه معارضوه على مستويات عدة ، فعلى الجبهة الاقتصادية ودعته 2017ـ وهي سنة ضريبية فائقة 300 مليار أوقية مدخول الجمارك والضرائب ـ عند نهايتها ب160 مليون دولار ويتوقع مبلغ يضاهيه في النصف الأول من 2018 لنفس السبب بواسطة توقيع عقود استغلال بعض الثروات المعدنية حسب مصادر صحفية، وهو ما ألمح إليه محافظ البنك المركزي، في ثنايا شرحه لإيجابيات تبديل العملة، من أن لديهم 800 مليون دولار كاحتياطي من العملة الصعبة وقد يرتفع إلى مليار بل وزيادة، كما تم استئناف التفاهم مع صندوق النقد الدولي ولو على أسس مجحفة: زيادة تعويم العملة، القيام بعمليات خوصصة جديدة ، تقليص حجم الالتزامات وتصفية بعض الشركات. ورغم أنها خطوات شبه انتحارية في الوقت الراهن، إلا أن المهم هو استئناف العلاقة مع المؤسسات الدولية إظهارا للمصداقية الخارجية. أما من الناحية السياسية فإن المعارضة قاعدة هاهنا لا تبرح نفس المربع :التمسك بزمام المبادرة للرد المشوب بالفتور في أكثر أوقاتها فاعلية، مع تشتت جهودها بسبب اختلاف المقاربات وتنافر الزعامات رغم أنها اليوم أقوى من الناحية المعنوية من أي وقت مضى وهي مـَرِحة بما تعتبره دحرا للنظام إبان معركة تعديل الدستور الأخيرة حيث اكسبتها شرعيتين: شرعية وطنية وشرعية نضالية بمعنى أنها صارت تواجه نظاما أقل منها شرعية بسبب تعرضه للرموز الوطنية وأصبحت تحظى بتجاوب جماهيري واسع مع خطابها، ومواقفها أي أنه تم صقل بريقها مجددا. وبدلا من تثمين ذلك التفوق، بواسطة جمع الأقطاب والرموز ووضع خطوط توافقية وأهداف موحدة تكون أساسا لاستراتيجية استباقية تهدف لخلق قطب تجميعي يستهدف هوامش الأغلبية وأهم من ذلك الأغلبية الصامتة التي تشهد اتساعا كبيرا في أعداد المثقفين وأصحاب المبادئ الذين يصبون اليوم للعب دور سياسي بحوافز جديدة تتعلق بتقييم صادق للوضع في ضوء انهيار المحظيات وانتصار للبلد، تغط المعارضة في سباتها العميق ولا تثق في قدرتها الكامنة ولا في التحولات الذهنية لدي الشباب واتساع استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الذي لا يمكن للنظام الحد من تأثيره، وعكسا لحث الجهود تجعل المعارضة دائما التفوق من نصيب السلطة التي تكتسب القوة من دعم الشعب المتَخلُف لها باستمرار وكأنه قسمة ونصيب ،إنها تحرم نفسها من الدرس الجيد موجة يقظة الشعوب جنوبا وشمالا. صحيح أن الثورات العربية لم تكن من صناعة الأحزاب، أو لم تكن هي صاحبة المبادرة في محيطنا، بل كانت هي الثالثة على خريطة الأحداث بعد النقابات والمبادرات الفردية، وذلك لأن النقابات ووسائل التواصل الاجتماعي أقوى في تلك البلدان منها في موريتانيا التي يحصل فيها العكس إذ تأتي الأحزاب في المقدمة، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي طورت من مكانتها في الساحة الإعلامية الوطنية فقد شحذها موضوع "النصرة"ودَرّبَها على طرق الحشد والتأجيج وصناعة الشعارات، وهكذا تضاعف خطرها كوسيلة مستقلة بذاتها للعمل السياسي والإعلامي دون أن يكون للنظام القدرة في الحد من فاعليتها رغم جهوده المتواصلة لذلك .إن الأحزاب قادرة- دون أي مبالغة- على إلهام الساحة بتحرك واسع والترويج للخلاص من عزيز الذي لم يعد يريده أحد. وباستثناء مظاهر تهريجية فإن الواقع يعرض صفحا عن أي دعاية تتعلق بصلاح هذا النظام بالنسبة للمواطن البسيط بعدما حمل على رأسه الأواني في دار النعيم وكيفه في مظاهر احتجاج صادمة تعبيرا عن الجوع والعطش، وعندما وقّع بعض منمي لبراكنة عارضة رفض الطريقة المثيرة للسخرية (3خنشات من القمح لكل مائة بقرة أو مئتين)ـ التي تدخلت بها الدولة في توفير العلف- كان مفيد جدا أن تتفهم المعارضة حجم المأساة وتقوم بما يلزم ليس على صعيد توفير الغذاء أو الماء أو العلف لكن بشرح الأسباب، وستجد ضالتها في تعرية النظام عندما تعرض على المواطن أن سبب غلاء الأسعار يتعلق بإجراءات داخلية مرتبطة بالإهمال الكبير وبزيادة الضرائب الجمركية ودرجة إرباك العملة الجديدة وزيادة تقليص قيمتها بعد تبديلها الأخير . ومن ثم تضع في الساحة تصورا للمخرج الذي أساسه احترام الدستور والحفاظ على التناوب السلمي وإعطاء الفرصة لفريق جديد بقدرات وتفكير مختلفين لأجل المساهمة في تغيير ظروف الشعب نحو الأحسن مثل ما يحصل يوميا في العالم من حولنا، وقد يفتح ذلك آفاقا كبيرة في احترام الدستور كمخرج حقيقي للوضع من أجل إحراز المهم وهو وضع أسس العدالة والمساواة وتوفير الحياة الكريمة للمواطن ـ الذي عليه هو الآخر أن يشارك في دفع الثمن الذي هو التحرر من التبعية العمياء لرسل النظام ـ ووضع أهداف واعية لحساسية الظرف التي تشغل كل الناس بما فيها الأغلبية نفسها، إن الخطاب الواقعي الذي يتعين على المعارضة حمله هذه الأيام يجب أن يحمل تصورا واضحا عن التناوب وعن انتقال سلمي للسلطة، أي خروج السلطة بصفة شفافة من يد الرئيس المنتهية ولايته إلى رئيس منتخب مستقل عن أي وصاية ويملك برنامجا سياسيا. حينها ستكون هناك فسحة لحراك قادر على التدخل في قلب الموازين التقليدية للعملية السياسية وتكون المعارضة هي من خلق الأمر الواقع وتجعل النظام المشتت بانعدام الرؤية الواحدة يفقد القدرة على جمع وتنظيم كافة أوراقه ويفقد مراكز القوة والتنظيم والتوازن وتصبح المعارضة ضمن معادلة النظام الأولى بدلا من أن يحافظ بكل تعال وبرودة أعصاب على تفكيكها وجعلها طول الزمن -حتي أوقات ضعفه- تدور في فلكه وهي تحاول عرقلته دون أن تقدر.
إن النظام اليوم يمر النظام، دون أن يشعر بذلك، بمرحلة انحدار حقيقية بداية بازدراء صاحب القرار الوحيد للأحداث القوية وللأزمات دون أن يقدر على توجهيها تاركة وراءها وضعيات سياسية ونفسية تراكمية مؤثرة ، وتجاهله التام ليس لتطلعات الشعب فقط بل لانشغالات الرأي العام باستمرار ، وبعد عشر سنوات من الحكم المطلق فقد فهم الكل، ولو متأخرا، أنه لا يبحث بالدرجة الأولى سوى عن مصلحته الشخصية وأن تهميش أصحاب الفكر والرأي والمبادئ وأصحاب الأعمال والاقتصاد والخبرة والبرامج الطموحة مقصود، إضافة إلى خيبة الأمل الكبيرة بالنسبة للذين تعلقوا بخطاب الإصلاح والتغيير وهم يشاهدون صورا بديعة حاول النظام رسمها لنفسه تهوي على الأرض بشكل مريع بسبب انتشار فضائح سوء الحكامة، وقد بهتت صورة رئيس الفقراء ومحاربة الفساد والمفسدين بل صارت نكتة. إنه سقوط مدوي للشعارات وللالتزامات وللوعود وأكثر من ذلك للنزاهة والوطنية، وهذه هي المرة الثانية شديدة الحرج التي يترك فيها عزيز المواشي تلاقي مصيرها أمام جفاف ماحق، لكن ذلك انعكس سلبا على قيمة النظام لدى المنمين والمزارعين وجعل ذهاب جزء من منية عامة. وأمام كل ذلك، تقف المعارضة مكتوفة الأيدي دون أن تثير أي قلق ولا مخاوف في الساحة من القدرة اعتراض الأمر الواقع الذي يساق إليه البلد أو التأثير على مخططات عزيز التي يديرها وحده دون أي اكتراث. ولا نتوقع أن تكون خشيته لأغلبيته وهو يتجاهلها بأقوى منها للمعارضة، فهي لا تملك أي مقاربة خاصة بها، بل تشعر في داخلها بالضجر من طول التهميش والتبعية، وقد فاضت آخر قواها مع التعديلات الدستورية وهي تدور في حلقة مفرغة دون أن تملك القدرة على التحرك في ضوء الاستحقاقات المقبلة وحقائق[ph1] المرحلة خاصة أنها التأمت[ph2] حول دعم "برنامج "عزيز الذي ستنتهي مأموريته خلال السنة القادمة وقد أعلن نيته في عدم تغيير الدستور لمصلحة ترشحه دون أن تجرؤ على دراسة خياراتها السياسية المترتبة على ذلك القرار، وأن تخرج من تحت السيطرة والتبعية بشأن مستقبلها ومصير البلد، لكن الواضح أن الأغلبية لا يمكن أن تخرج من تحت الوصاية وهي تنتظر القرار الذي سيتخذه عزيز بفارق الأسى ،إنها تنتظر -مثل المعارضة - أن يخرج التغيير من داخل النظام مثل انقلاب عسكري وانفلات أمني، فلا يوجد أي تصور لحل سياسي تفرضه النخبة، وأسوأ ما في الأمر أنه لا يمكننا اللحاق بدول الجوار التي ندعي باستمرار أننا أفضل منها . وخلاصة القول أن عزيز لا يواجه أي مخاطر بالنسبة لاعتقاده وهو يحرك بيادق سريعة الحركة على خريطة هواه الشخصي. إنها محصلة مفجعة أن لا نتوقع التغيير من طرف النخب أو بواسطة السياسية أي أن لا نتوقع الحصول على تناوب سلمي يأخذ بعين الاعتبار حجم المخاوف من الانزلاق. أو، لنكن واقعين، إنه مؤسف أن لا يأخذ عزيز الوضع بالجدية والحذر اللازمين. وهذا يقود بالضرورة إلى الاحتكام على تعقيدات الوضع ودينامية تلك التعقيدات، فليست العوامل النفسية وحدها هي صاحبة الحسم، لكن هناك عوامل أخرى لا يأخذها عزيز في الحسبان ستكون حاسمة في المستقبل. إن عزيز يقف على مشارف "فهمتكم"، فقد أخذ يفَقد السيطرة على الحكم أي على القدرة على كبح الاحتجاجات القوية، التي تدفعها مشاعر الغضب بعنفوان أكبر اتجاه الرئاسة وكأنه يقف عند نفس مربع زين عابدين بن عالي سنة 2010 في الوقت الضائع عندما ظل يكرر أمام تصاعد المتظاهرات التونسية: "افهمتكم". ليس بإمكان عزيز،